الصين توجه طلابها نحو التعليم المهني لملء شواغر المصانع

الصين توجه طلابها نحو التعليم المهني لملء شواغر المصانع
صورة تعبيرية لطلاب تعليم مهني - بلومبرغ

يتخرج كل صيف ملايين الشباب الصينيين من شبكة واسعة من الجامعات المحلية التي تقدّم برامج تعليمية تمتد لأربع سنوات. لكن في السنوات الأخيرة، بات كثير من هؤلاء الخريجين يواجهون صعوبات في العثور على وظائف تتناسب مع مؤهلاتهم، ما دفع بعضهم للعمل في مجالات مثل توصيل الطلبات أو البث المباشر عبر الإنترنت، بل إن بعضهم عاد للعيش مع ذويهم الذين يدفعون لهم مقابل أداء أعمال منزلية، وكأنما تحولت البنوّة إلى "وظيفة".

في المقابل، لا تزال ملايين الوظائف شاغرة في قطاعات حيوية مثل التصنيع، وتقنية المعلومات، والرعاية الصحية، في ظلّ نقص في الكفاءات المؤهلة. وقال دان وانغ، مدير مكتب مجموعة "أوراسيا" في الصين: "يمكن أتمتة الوظائف التصنيعية البسيطة، لكن هناك نقصاً حاداً في العمال المهرة القادرين على برمجة الأكواد أو تشغيل الآلات".

نقص في العمالة المهنية الماهرة
أمام هذا الاختلال في سوق العمل، يدعو مسؤولون صينيون، في مقدمتهم الرئيس شي جين بينغ، الشباب إلى إعادة النظر في المسار الأكاديمي التقليدي، والاتجاه بدلاً من ذلك إلى الكليات المهنية التي تستغرق الدراسة فيها 3 سنوات، ويكتسب خلالها الطلاب مهارات عملية تؤهلهم للعمل في مجالات مثل تشغيل الآلات، والهندسة الروبوتية، والتمريض، إضافة إلى مجموعة واسعة من الوظائف الفنية الأخرى.

وتزداد حاجة شي إلى قوى عاملة ماهرة قادرة على تشغيل المصانع، في وقت يتنامى فيه الاستياء الشعبي مع ارتفاع معدل بطالة الشباب إلى واحد من كل ستة، بحسب الإحصاءات الأخيرة. ووفقاً لموقع التوظيف "جاوبين" (Zhaopin)، لم يحصل سوى 45% من خريجي الجامعات في عام 2024 على عروض عمل بحلول أبريل، وهو الموعد الذي تنتهي فيه عادة حملات التوظيف الجامعية. في المقابل، بلغت نسبة التوظيف بين خريجي الكليات المهنية 57%، إذ ترتبط هذه المؤسسات غالباً بشراكات مع شركات تتيح برامج تدريب وفرص توظيف مباشرة.

ويرى كالفن لام، المحلل في "بانثيون ماكرو ايكونوميكس" (Pantheon Macroeconomics) أن "هناك فجوة هيكلية بين سوق العمل والنظام التعليمي... والخريجون الجدد لا يرغبون في العودة إلى المصانع".

وصمة اجتماعية
يخضع طلاب الصف التاسع في الصين لامتحان حاسم يحدد مسارهم التعليمي، إما أكاديمي يُهيّئ لاختبارات القبول الجامعي، أو مهني يُركّز على التدريب العملي تمهيداً للالتحاق بالكليات المهنية.

وفي إطار مساعيها لتعزيز مكانة التعليم المهني، شددت الحكومة الصينية قبل 3 سنوات على ضرورة تحقيق تكافؤ الفرص بين المسارين من حيث استكمال التعليم والحصول على الوظائف. غير أن الواقع لا يزال مختلفاً، إذ تشترط عديد من الشركات امتلاك شهادة جامعية لشغل المناصب الرفيعة، ما يعزز التفاوت بين المسارين.

وتضم الجامعات الصينية نحو 20 مليون طالب موزعين على 1300 جامعة، في حين يبلغ عدد الطلاب في الكليات المهنية نحو 17 مليوناً، يدرسون في أكثر من 1500 مؤسسة. وتسعى بكين إلى توسيع شبكة الكليات المهنية، وجعلها "رائدة عالمياً" بحلول 2035.

من حيث التكلفة، لا يختلف المساران كثيراً، إذ تبلغ الرسوم السنوية في المدارس الحكومية نحو 6000 يوان (ما يعادل 827 دولاراً)، فيما يدفع الطلاب عادةً ضعف هذا المبلغ أو أكثر في المؤسسات التعليمية الخاصة. ورغم ذلك، ما يزال إقناع الأسر بإرسال أبنائهم إلى الكليات المهنية أمراً صعباً، في ظل الصورة النمطية التي تُصوّر التعليم المهني على أنه خيار من لم يحققوا درجات عالية.

على امتداد آلاف السنين، كان الهدف من التعليم في الصين هو اجتياز الامتحان الإمبراطوري للظفر بوظيفة في الخدمة المدنية. أما اليوم، فيمضي الطلاب الطامحون للالتحاق بالجامعات سنواتهم في المرحلة الثانوية استعداداً لاجتياز اختبار "غاوكاو" (gaokao)، وهو امتحان قبول جامعي مرهق يمتد لعدة أيام.

ويُتاح للطلاب أصحاب الدرجات المرتفعة دخول أبرز الجامعات في البلاد، في حين يتجه أصحاب المعدلات الأدنى إلى جامعات أقل تصنيفاً أو إلى الكليات المهنية.

تفضيل الشهادات الجامعية
تبرز أيضاً قضية الفروقات في الدخل، إذ بلغ متوسط الدخل الشهري لحاملي شهادة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات من التخرج نحو 10,168 يوان (ما يعادل 1400 دولار أمريكي) في عام 2023، أي أعلى بنحو الثلث مقارنةً بدخل خريجي الكليات المهنية، بحسب بيانات شركة "مايكوس" (Mycos) الاستشارية المتخصصة في التعليم.

وقال لي روييوان، مدير مدرسة "هاندان لينغتشوانغ" (Handan Lingchuang) الثانوية المهنية في مقاطعة خيبي شمال الصين: "يعتقد معظم الأهل أن المدرسة الجيدة هي التي تجبر الطلاب على الاستيقاظ في السادسة صباحاً والدراسة حتى الحادية عشرة ليلاً. وعندما أخبرهم أنه يمكن للطلاب اللعب في المدرسة أو ممارسة هواياتهم، يشعرون بالقلق".

الرئيس شي جين بينغ، الذي أشرف خلال التسعينات على مدرسة مهنية أثناء توليه منصب أمين الحزب في مدينة فوجو، يُشيد بالتعليم المهني في محاولة لاستقطاب مزيد من الطلاب إلى هذا المسار. إذ يصف الحرفيين بأنهم "ركيزة" الأمة، ويؤكد على أهمية رفع مكانة المدارس المهنية وتعزيز جاذبيتها.

ومع ذلك، فإن تغيير النظرة المجتمعية تجاه هذا النوع من التعليم لا يزال بطيئاً. ففي عام 2021، اقترحت الحكومة دمج بعض المؤسسات الربحية التي تمنح شهادات بكالوريوس مع مدارس مهنية، ما أثار موجة احتجاجات بين طلاب الجامعات. وفي إحدى الجامعات بمدينة نانجينغ، احتجز طلاب غاضبون عميد الجامعة لمدة 30 ساعة، خشية أن يؤدي الدمج إلى التقليل من قيمة شهاداتهم، قبل أن تتدخل الشرطة وتضع حداً للحادثة.

بعض الاستثناءات
رغم التحديات، نجحت بعض المدارس المهنية في ترسيخ مكانة مرموقة على مستوى البلاد، تضاهي مكانة أبرز الجامعات التي تقدم برامج أكاديمية تمتد لـ4 سنوات. من بين هذه المؤسسات، تبرز جامعة شنجن التقنية الواقعة شمال الحدود مع هونج كونج، والتي يُشار إليها غالباً بلقب "تسنغهوا الصغيرة"، في إشارة إلى جامعة "تسنغهوا" العريقة التي تخرّج منها عدد من كبار قادة الصين، بمن فيهم الرئيس شي جين بينغ.

ويُعزى جزء من نجاح جامعة شنجن التقنية إلى علاقاتها الوثيقة مع شركات محلية كبرى مثل "هواوي تكنولوجيز"، إضافة إلى سمعتها في دعم ريادة الأعمال بين طلابها، ما جذب حتى أولئك القادرين على الالتحاق بأعرق الجامعات الصينية.

زوي تشين، وهي طالبة في الجامعة، قالت إنها تعيد النظر في خططها للحصول على درجة الماجستير، مضيفة: "الطلاب هنا يؤسسون الشركات، والأساتذة ينفذون مشاريع بحثية خاصة بهم. أدركت أنني لا أحتاج إلى شهادة متقدمة لتحقيق نوع الحياة التي أطمح إليها".

سمات

الأكثر قراءة