أمريكا والصين بين «أقصدة المال» و«أمولة الاقتصاد»
المال أداة معاوضة وأما الاقتصاد فهو مجموع السلع التي تباع وتشترى إن معدنا الذهب والفضة عرفت للمعاوضة ويستخدما كسلع في النطاق الأضيق؛ فالبشرية تحتفظ بهما كنقدين وتتم صياغة ما لا يزيد على 20 % منهما كسلع نقول ذلك كون أمريكا جمهورية مالية. أما الصين فهي دولة شيوعية اقتصادية.
نبدأ من أمريكا؛ حيث نجد أنها أسست أنظمتها بين 1789 - 1791 لتحصيل الضرائب، وبانتهاء الحرب العالمية الأولى أقنعت أمريكا الحلفاء بتخزين الذهب فاستحوذت على ثلاثة أرباعه على مستوى العالم ذلك الوقت، وتم الاتفاق على أن يكون الدولار سند يتم تثبيت تغطيته بالذهب بـ 0.88 جرام، نجم عن ذلك اتفاق بريتون وودز 1944 وهو السعر الغطائي الفعلي للدولار منذ 1900.
حتى هذه اللحظة كانت الأمور واضحة والرأس مالية مسيطرة، فكانت تشتري العقليات الفذة وتحتكر الصناعات والهدف مالي بحت. لكن مع استنزاف الأموال في الحرب العالمية الثانية ثم حرب فيتنام وصولاً إلى الثورات الاقتصادية في العالم الرأس مالي حصلت استنزافات كادت أن تكشف الحقيقة بعدم وجود مايغطي ذلك من الذهب، فتم طباعة دولارات أكبر بكثير مما لدى أمريكا من الذهب، فقرر حينها الرئيس نيكسون أن يواجه العالم بنظرية جديدة وهي أن الدولار هو المرجع الرئيسي سواء تم تغطيته بالذهب أم لم لا.
من هنا تحولت هذه الورقة من سلعة اقتصادية استخدمت كسند إثبات لما يقوم الأشياء (الذهب) إلى مال وسنده الاقتصاد والقوة الأمريكية.
من هنا بدأت رحلة أقصدة المال فأصبح (الدولار) مقوم للاقتصاد بذاته دون مرجعية أو غطاء منطقي، واستمرت أمريكا بتطبيق نظريات الرأس مالية البحتة حتى مع بروز هذا التطور، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أنشأت أمريكا مجموعة (جات) للسيطرة والاحتكار الاقتصادي، إلا أنها لم تتنازل عن الرأس مالية بشكل ملحوظ فكانت فكرة المال مهيمنة على الاقتصاد (المال احتكاري والاقتصاد تشاركي) وكانت تظن الهيمنة التامة، إلا أنها اكتشفت أن عدم توسيع الدائرة سيطور المعسكر الاقتصادي، فحولت (جات) إلى منظمة التجارة العالمية 1995، ليبدأ تحول آخر في الرأس مالية بالتنازل عن شيء من أسسه الاحتكارية؛ وأعيد سبب ذلك لهفوات متعددة كان من أمثلتها ما حدث 1993 عند بسط أمريكا هيمنتها بشراء اليورانيوم باتفاقية (ميغا طن ميجاوات) إلا أنها وقعت في خطأ كبير مبني على قاعدة هيمنة المال، وذلك أنها نظرت للوضع نظر مالي كأساس فكانت تفاوض على سعر اليورانيم وتكاليف نقله واستخدامه وتقسيط السداد إلى 2013، ولم تنتبه أنها لم تمنع أو تحجم التقنية الروسية وأن الروس سيتطورون بشكل كبير، فأثبتت الأيام القريبة من سنة الاتفاق ذلك ما جعل اتفاقية منظمة التجارة ضرورة ملحة بالنسبة لأمريكا ليستمر بث نفوذها المالي وما يتبعه من نفوذ اقتصادي، لكن مع تقديم شيء من التنازلات عن النظريات المالية.
لقد كانت التسعينيات عصب مهم لكسر النظرية المالية وذلك ببزوغ الصين، والتي بدأت رحلتها بأمولة الاقتصاد، فرضخت في الظاهر للطموح الرأس مالي وأنظمة لمنظمة التجارة العالمية وعملت على التغلغل في جذور المنظمة، فاستغلت ثغراتها لكسر الاحتكار، وقد حذر من ذلك المنظرين إلا أن صانعي القرار كانوا لايزالون مقتنعين بالهيمنة، ولم تأبه أمريكا لهذا الاقتصاد التراكمي المقبل بقوة، حتى أفاقت على غزو الصين الأسواق الاقتصادية.
خططت الصين بإيهام العالم في بادئ الأمر بتواضع العقلية الصينية وضعف عملتها. إلى أن وصلنا لوقتنا الحاضر الذي يعلم فيه الجميع حجم الهيمنة الصينية الاقتصادية.
بقي على الصين خطوة واحدة لقلب المعادلة بشكل كامل وهي السيطرة على الأسواق المالية فقامت بإنشاء بريكس، ومن هنا بدأت بأمولة الاقتصاد الصيني، وليس بالضرورة أن تكون هذه الخطوة صائبة، فإن نظرية الدمج هذه قد تؤدي الى سيناريوهات مشابهة لما سردناه من التاريخ الأمريكي، وما يراه متابع الساحة المالية من تذبذب قرارات بريكس قد يقف عند ملحوظة مهمة هي أن الصين تعمل بمبدأ الاستغفال، فقد تكون بريكس أداة ضغط وليست هدفاً حقيقياً وقد تكون هدفاً طويل المدى
لقد قرأ هذا السيناريو ترمب بشكل ممتاز فاتجه إلى معادن أوكرانيا وسيطر على خليج بنما ويسعى إلى السيطرة على غرينلاند وأمّن اقتصاد أمريكا عن طريق كندا والمكسيك ثم بدأ معركة التعرفات الجمركية وتخفيض سعر الفائدة.
من هنا قد يتضح التوجه الأمريكي، وأنه من الممكن أن يكون قد تنازل عن التمسك عن أشياء مهمة بالرأس مالية وحدثت لديه قناعة بضرورة الموازنة بين الاقتصاد والمال لمواجهة الصين، مما لا أستبعد معه أن نرى خلال 2025 قوانين جديدة في الداخل الأمريكي تتجه نحو هذا الاتجاه بشكل متسارع، فإن كنز نقل الاقتصاد إلى الداخل والتنازل عن شيء من النظريات المالية يستحق تلك التضحيات في الأسواق.
لا يعني كلامي هذا بالطبع أن الإدارة الأمريكية لن تسع لإيجاد حلول سريعة للخروج من هذه الأزمة، إلا أن المتوجه هو دخول أمريكا مرحلة جديدة كلياً في أقصدة المال الأمريكي، وعليه فإنه ليس بالضرورة أن يكون علاج التذبذب في أسواق المال في القريب العاجل فاحتمال وارد أن تأخذ موجة التذبذب عدة سنوات وكذلك من الممكن أن تنتهي بأشهر وذلك حسب الخطط الاقتصادية من الحكومة الأمريكية، وأيضاً يجب أن نضع في الحسبان ردود الأفعال الصينية اللاعب الرئيسي في الساحة حيث إنها محترفة بوضع الخطط غير المعلنة والتي تفاجئ العالم بها بين حينٍ وآخر.