كفوا عن مقارنة الذكاء الاصطناعي بالبشر عبثاً

القول إننا على مشارف عصر الذكاء الاصطناعي العام ضرب من دعاية لجذب المستثمرين

علينا أن نستطلع مقدرات برنامج ذكاء اصطناعي بدلاً من إطلاق العنان للخيال

إن سمعتم مصطلح الذكاء الاصطناعي العام، فلربما يتبادر لكم ما يماهي ذكاء البشر، كما حال برنامج الذكاء الاصطناعي عذب الصوت الذي تناوله فيلم (Her)، أو ذكاء خارق على غرار "سكاي نت" من فيلم .(The Terminator) على أي حال، سيكون شيئاً خيالياً بعيد المنال. يتزايد من يتنبّأون بظهور الذكاء الاصطناعي العام، أو الذكاء الاصطناعي "بمستوى الإنسان"، في المستقبل القريب جداً سواء بين العاملين في قطاع التقنية أو من خارجه.

قد يُصدّقون ما يقولون، لكن على الأقل جزئياً فإن هذا مردّه إلى دعاية معدّة لجذب مستثمرين يضخون مليارات الدولارات في شركات الذكاء الاصطناعي.

حتماً، سنشهد تغيرات كبيرة وعلينا أن نستعد لها. لكن تسميتها بالذكاء الاصطناعي العام، هي في أحسن أحوالها تشتيت للانتباه، وفي أسوئها تضليل متعمّد. يحتاج قادة الأعمال وصانعو السياسات إلى طريقة أفضل للتفكير فيما هو قادم. ولحسن الحظ هناك طريقة.


كم من الزمن سيمر قبل أن نبلغ ذلك؟

لم يمض وقت طويل منذ صرّح كل من سام ألتمان من "أوبن إيه آي"، وداريو أمودي من "أنثروبيك"، وإيلون ماسك من "إكس إيه آي" (وهي أقل شركاته سبباً في شهرته) بأن الذكاء الاصطناعي العام أو ما يشبهه سيظهر خلال عامين. بينما يعتقد آخرون، مثل ديميس هاسابيس من "جوجل ديب مايند" ويان ليكون من "ميتا"، أن ذلك لن يكون قبل 5 إلى 10 سنوات. اتسع انتشار هذا المصطلح حديثاً وقد حاجج صحفيون، منهم عزرا كلاين وكيفن روز من صحيفة "نيويورك تايمز"، بأن على المجتمع الاستعداد لشيء يشبه الذكاء الاصطناعي العام في المستقبل القريب جداً.

أقول "شيء يشبه" لأن هؤلاء غالباً ما يستخدمون مصطلح الذكاء الاصطناعي العام ثم يعمدون إلى تعبير أكثر غموضاً مثل "الذكاء الاصطناعي القوي". وما قد يقصدونه بذلك يختلف اختلافاً كبيراً، بدءاً من ذكاء اصطناعي قادر على أداء أي مهمة معرفية فردية تقريباً بكفاءة الإنسان، لكنه يكون محصوراً في اختصاص معين إلى حد كبير (كما يظن كلاين وروس)، وصولاً إلى إنجاز أعمال بمستوى جائزة نوبل (حسب أمودي وألتمان)، أو إلى التفكير كإنسان حقيقي من جميع النواحي (كما يعتقد هاسابيس)، أو إلى العمل في العالم المادي (حسب ليكون)، أو ببساطة أن يكون "أذكى من أذكى إنسان" (كما يعتقد ماسك).


هل أيٌّ من هذا ذكاء اصطناعي عام بحق؟

الحقيقة هي أن هذا لا يهم. حتى لو وُجد شيء يُسمى الذكاء الاصطناعي العام -وهو، كما أزعم، غير موجود- فليس هناك أي تغيير جوهري سنشهده بعد بلوغ نقطة تطور معينة. بالنسبة إلى من يروجون له، فإن الذكاء الاصطناعي العام هو الآن اختصار لفكرة أن شيئاً مُزلزلاً يوشك أن يحدث: برنامج يفوق دوره برمجة تطبيق أو كتابة واجب مدرسي أو قصص ما قبل النوم للأطفال أو حجز عطلة، بل قد يسلب وظائف كثير من الناس ويحقق اختراقات علمية كبرى ويوفر قوة مرعبة للمخترقين والإرهابيين والشركات والحكومات.

هذا تنبؤ جدير بالاهتمام، وتسميته بالذكاء الاصطناعي العام تثير انتباه الناس. ولكن بدلاً من الحديث عن الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الاصطناعي بمستوى الإنسان، دعونا نتحدث عن أنواع مختلفة من الذكاء الاصطناعي، وما يمكنها أو ما لا يمكنها فعله.


ما لا تستطيع النماذج اللغوية الكبرى فعله

لطالما كان الوصول إلى شكل من أشكال الذكاء بمستوى الإنسان هو الهدف، وذلك منذ انطلاق سباق الذكاء الاصطناعي قبل 70 عاماً. لعقود، كان أفضل ما أمكن بلوغه هو "الذكاء الاصطناعي الضيق" مثل "ديب بلو" من شركة "آي بي إم" الذي فاز بلعبة الشطرنج، أو "ألفا فولد" من "جوجل"، الذي يتنبأ ببنية البروتينات، والذي مكّن مبتكريه (ومنهم هاسابيس) من الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء العام الماضي. وكلاهما كان يفوق المستوى البشري بكثير، لكن فقط لمهمة واحدة محددة.

إذا بدا الذكاء الاصطناعي العام الآن أقرب، فذلك لأن نماذج اللغة الكبيرة التي يقوم عليها "شات جي بي تي" وأمثاله تبدو أكثر شبهاً بالإنسان وشموليةً.

تتفاعل النماذج اللغوية الكبيرة معنا بلغة بسيطة. يمكنها تقديم إجابات تبدو معقولة على الأقل لمعظم الأسئلة. وتكتب قصصاً خياليةً جيدةً، على الأقل عندما تكون قصيرة جداً. (في القصص الطويلة، تفقد القدرة على تتبع الشخصيات وتفاصيل الحبكة).

إنها تحقق نتائج أعلى باستمرار في اختبارات معيارية لمهارات مثل البرمجة والامتحانات الطبية أو امتحانات نقابة المحامين ومسائل الرياضيات. إنها تتحسن في التفكير خطوة بخطوة والمهام الأعقد. عندما يتحدث أشد المتحمسين للذكاء الاصطناعي عن قرب ظهور الذكاء الاصطناعي العام، فإنهم في الواقع يتحدثون عن شكل أكثر تقدماً من هذه النماذج.

لا يعني هذا أن النماذج اللغوية لن تكون لها تأثيرات كبيرة، فبعض شركات البرمجيات باتت تخطط لتوظيف عدد أقل من المهندسين. معظم المهام التي تتبع عملية متشابهة في كل مرة -مثل إجراء التشخيصات الطبية وإعداد الملفات القانونية وكتابة ملخصات الأبحاث وإنشاء حملات تسويقية وما إلى ذلك- ستكون مهام يمكن للموظفين أن يستعينوا عليها ولو جزئياً بالذكاء الاصطناعي. وبعضهم باشر ذلك.

سيزيد هذا من إنتاجيتهم وقد يؤدي ذلك إلى شطب بعض الوظائف. لكن ليس بالضرورة أن يحدث ذلك، فقد توقع جيفري هينتون، عالم الكمبيوتر الحائز جائزة نوبل والمعروف باسم الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، أن هذه التقنية ستلغي عمل إخصائيي الأشعة. لكن اليوم هنالك قصور في أعدادهم في الولايات المتحدة.

لا تزال النماذج اللغوية "ذكاءً اصطناعياً ضيقاً" ويمكنها التفوق في وظيفة واحدة بينما تكون سيئة في وظيفة أخرى تبدو مرتبطة بها، وهي ظاهرة تُعرف باسم "الحدود الوعرة".

على سبيل المثال، قد يجتاز الذكاء الاصطناعي امتحان نقابة المحامين بنجاح باهر، لكنه يخفق في تحويل محادثة مع عميل إلى ملف قانوني.

قد يجيب عن بعض الأسئلة بشكل مثالي، لكنه يبالغ في "التخيل" (أي يختلق الحقائق) في أسئلة أخرى. تبرع النماذج اللغوية في المسائل التي يمكن حلها باستخدام قواعد واضحة، لكن في بعض الاختبارات الأحدث التي كانت القواعد أكثر غموضاً، واجهت النماذج، التي حصلت على 80% أو أكثر في معايير أخرى، صعوبةً في الوصول إلى نسب نجاح أدنى من 10%.

حتى لو بدأت النماذج اللغوية بالتفوق في هذه الاختبارات، فستبقى محدودة. هنالك فارق كبير بين معالجة مسألة محددة ومحدودة مهما كانت صعوبتها وبين تجربة ما يفعله الناس فعلياً في يوم عمل عادي. حتى عالم الرياضيات لا يقضي كامل يومه في حل مسائل الرياضيات فحسب. يفعل الناس أشياءً لا تُحصى ولا يُمكن قياسها لأنها ليست مسائل محدودة بإجابات صحيحة أو خاطئة.

نحن نوازن تضارب الأولويات ونتخلى عن الخطط الفاشلة ونتحسب للقصور المعرفي ونضع حلولاً بديلة ونتصرف بناءً على حدسنا ونتعرف على ما يدور في الغرفة، والأهم من ذلك كله، نتفاعل باستمرار مع ذكاءات البشر غير المتوقعة وغير العقلانية.

في الواقع، إحدى الحجج التي تنفي قدرة النماذج اللغوية على إنجاز أعمال تضاهي جائزة نوبل هي أن ألمع العلماء ليسوا من يعرفون أكثر، بل من يتحدّون الحكمة التقليدية، ويطرحون فرضيات غير محتملة، ويطرحون أسئلة لم يفكر أحد في طرحها. هذا مختلف تماماً عن النماذج اللغوية، المصممة لإيجاد الإجابات الأكثر توافقاً بناءً على جميع المعلومات المتاحة. لذا، قد نتمكن يوماً ما من بناء نماذج لغوية تُمكننا من أداء أي مهمة معرفية فردية تقريباً بكفاءة الإنسان. قد تكون قادرة على ربط سلسلة كاملة من المهام لحل مشكلة أكبر. وفقاً لبعض التعريفات، ستكون ذكاءً اصطناعياً بمستوى الإنسان. لكنها ستظل غبية جداً إذا وُضعت في مكتب.


الذكاء البشري ليس "عاماً"

تكمن المشكلة الأساسية في فكرة الذكاء الاصطناعي العام في أنها مبنية على مفهوم شديد المركزية البشرية لماهية الذكاء. تتعامل معظم أبحاث الذكاء الاصطناعي مع الذكاء كما لو كان مقياساً خطياً بقدر ما. وتفترض أن الآلات ستبلغ في مرحلة ما مستوى الذكاء البشري أو "الذكاء العام"، وربما بعد ذلك إلى "الذكاء الفائق"، وعندها إما أن تصبح على غرار "شبكة سكاي نت" فتدمرنا أو تتحول إلى قوى خيّرة تعتني بجميع احتياجاتنا.

لكن هناك حجة قوية مفادها أن الذكاء البشري ليس "عاماً" في الواقع. لقد تطورت عقولنا لمواجهة تحدٍّ محدد جداً وهو أن نكون ما نحن عليه من حيث أحجام أجسامنا وأشكالها، وأنواع الطعام التي نستطيع هضمها، والحيوانات المفترسة التي تعرضنا لها، وحجم مجموعات أقاربنا، وطريقة تواصلنا، وحتى قوة الجاذبية وأطوال موجات الضوء التي ندركها، كلها عوامل تحدد ما تجيده عقولنا.

لدى الحيوانات الأخرى أشكال عديدة من الذكاء نفتقر إليها: فالعنكبوت يستطيع التمييز بين المفترس والفريسة من خلال اهتزازات شبكته، والفيل يستطيع تذكر مسارات الهجرة التي تمتد لآلاف الكيلومترات، وفي الأخطبوط، كل مجس يتصرف كما لو أن له عقلاً يخصه.

في مقال نشرته مجلة "وايرد" في 2017، حاجج كيفن كيلي بأنه علينا ألّا نعتبر الذكاء البشري قمة شجرة التطور، بل كنقطة واحدة ضمن مجموعة من الذكاءات الأرضية، التي تمثّل في حد ذاتها لطخة صغيرة في عالم مليء بجميع الذكاءات الفضائية والآلية المحتملة.

كتب أن هذا يبدد "أسطورة الذكاء الاصطناعي الخارق" القادر على القيام بكل شيء بشكل أفضل منا بكثير. بل يجب أن نتوقع "مئات الأنواع الجديدة من التفكير غير البشري، التي تختلف اختلافاً كبيراً عن البشر، ولن يكون لأي منها غرض عام، ولن يكون أي منها قوة خارقة فوريةً تحل المشكلات الكبرى في لمح البصر".

هذه ميزة وليست عيباً. فيما يخص معظم الاحتياجات، أعتقد أن الذكاءات المتخصصة ستكون أرخص وأكثر موثوقية من الذكاءات المتعددة التي تشبهنا إلى حد كبير. علاوة على أنها أقل عرضة لأن تنتفض وتطالب بحقوق.


أسراب من العملاء

لا يعني هذا تجاهل القفزات الهائلة التي يمكن أن نتوقعها من الذكاء الاصطناعي في السنوات القليلة المقبلة. إحدى القفزات التي بدأت بالفعل هي الذكاء الاصطناعي "الوكيل". لا يزال العملاء يعتمدون على البرامج اللغوية الضخمة، لكن بدلاً من مجرد تحليل المعلومات، يمكنهم تنفيذ إجراءات مثل الشراء أو ملء نموذج ويب. على سبيل المثال، تخطط "زووم" لإطلاق عملاء قريباً يمكنهم تصفح محاضر الاجتماعات لتحري ما يمكن تحويله إلى أفعال، وصياغة رسائل متابعة عبر البريد الإلكتروني، وجدولة الاجتماع التالي. حتى الآن، أداء عملاء الذكاء الاصطناعي متفاوت، ولكن كما هي الحال مع برامج النماذج اللغوية الضخمة، نتوقع أن يتحسن بشدة لدرجة تمكن من أتمتة عمليات شديدة التعقيد.

قد يدّعي بعض أن هذا هو الذكاء الاصطناعي العام. لكن أكرر أن هذا يُربك أكثر من أن يفيد. لن يكون الوكلاء "عامين"، بل أشبه بمساعدين شخصيين ذوي عقول أحادية التوجه. قد يكون لديك عشرات منهم. وحتى لو رفعوا إنتاجيتك بشكل كبير، فإن إدارتهم ستكون أشبه بإدارة عشرات التطبيقات البرمجية المختلفة، تماماً كما تفعل حالياً. ربما ستُعيّن وكيلاً لإدارة جميع وكلائك، لكنه أيضاً سيكون مقيداً بالأهداف التي تحددها له.

ما سيحدث عندما يتفاعل ملايين أو مليارات الوكلاء معاً عبر الإنترنت هو أمرٌ لا يعلمه أحد. ربما، كما تسببت خوارزميات التداول في "انهيارات مفاجئة" غير قابلة للتفسير في الأسواق، فإنهم قد يدفعون بعضهم بعضاً إلى تفاعلات متسلسلة لا يمكن إيقافها تشل نصف شبكة الإنترنت. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن جهات خبيثة قد تحشد أسراباً من العملاء لنشر الفوضى.

مع ذلك، فإن برامج النماذج اللغوية الضخمة وعملاءها ما هي إلا نوع واحد من الذكاء الاصطناعي. في غضون بضع سنوات، قد تكون لدينا أنواع مختلفة جذرياً. إن مختبر ليكون في "ميتا"، على سبيل المثال، هو واحد من عدة مختبرات تحاول بناء ما يُسمى الذكاء الاصطناعي المُجسّد.

النظرية وراء ذلك هي أن وضع الذكاء الاصطناعي في جسم روبوت في العالم المادي، أو في محاكاة، يمكنه التعلم عن الأشياء والموقع والحركة، وهي اللبنات الأساسية للفهم البشري التي تنبع منها المفاهيم العليا. على نقيض ذلك، فإن برامج النماذج اللغوية، المدرّبة فقط على كميات هائلة من النصوص، تُقلّد عمليات التفكير البشري ظاهرياً، لكنها لا تُظهر أي دليل على تملك هذه القدرة، أو حتى إنها تفكر بشكل ذي معنى.

هل سيؤدي الذكاء الاصطناعي المتجسد إلى ظهور آلات تفكر بذكاء، أم مجرد روبوتات بارعة؟ حالياً يستحيل الجزم. حتى لو كان الجواب الأول، فسيظل وصفه بالذكاء الاصطناعي العام مُضلِّلاً.

بالعودة إلى نقطة التطور: بقدر ما هو سخيف أن نتوقع إنساناً يفكر كالعنكبوت أو الفيل، سيكون سخيفاً أن نتوقع أن يفكر روبوت مستطيل بست عجلات وأربع أذرع، لا ينام ولا يأكل ولا يتكاثر -علاوة على عجزه عن تكوين صداقات أو أن يعيش صراع ضمير أو يتفكر في فنائه- كالإنسان. قد يكون قادراً على حمل الجدة من غرفة المعيشة إلى غرفة النوم، لكنه سيُدرك المهمة ويؤديها بشكل مختلف تماماً عن البشر.

كثير من الأشياء التي سيتمكن الذكاء الاصطناعي من فعلها، لا يمكننا حتى تخيُّلها اليوم. أفضل طريقة لتتبع هذا التقدم وفهمه هي التوقف عن مقارنته بالبشر، أو بأي شيء من الأفلام، والاستمرار في التساؤل: ماذا يمكنه أن يفعل حقاً؟


خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي