الاستشهاد بالشعر النبطي في التواريخ

كانت بدايات الكتابة في التاريخ النجدي من خلال تسجيل حوادث مختصرة ليس فيها تفصيل واضح، لذلك جاءت هذه التواريخ مختصرة لا تتجاوز الـ20 والـ30 ورقة. وانظر على سبيل المثال: تاريخ محمد بن بسام، وابن يوسف، وابن عباد. ونستطيع أن نعتبر تاريخ ابن غنام "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وغزوات ذوي الإسلام" هو أول تاريخ موسع لنجد، جاء بعده تاريخ ابن بشر "عنوان المجد في تاريخ نجد"، ثم ابن عيسى، وابن بسام في "تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق" ومقبل الذكير وغيرهم، وقد أسهب هؤلاء في تسجيل الحوادث مقارنة بمن سبقهم.
لم يول مؤرخو نجد أهمية تذكر للشعر النبطي، لذلك لم يعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، فإذا نظرنا إلى المؤرخين الذين سبقوا ابن غنام لا نكاد نجد عندهم أي استشهاد بالشعر النبطي، وقد يكون عذرهم الاختصار، وإذا جئنا إلى ابن غنام نجد الأمر نفسه مع أنه توسع في ذكر الحوادث. جاء بعده ابن لعبون والد الشاعر المشهور، وأورد أبيات قليلة من الشعر النبطي للاستدلال على بعض مسائل الأنساب. أما ابن بشر فقد استشهد على مضض بأبيات من الشعر النبطي، وفي موضع آخر أثناء تسجيله لإحدى الحوادث نجده يذكر أن أبياتا من الشعر النبطي قيلت في هذه المعركة لكنه لم يوردها لأنها ليست فصحى، وفي حديثه عن الإمام فيصل بن تركي يقول: "وقد مدح الإمام فيصل بقصائد عديدة ومناظيم فريدة، على لفظ العرب ولفظ النبط". ولا يورد هذه القصائد النبطية، أو حتى أبياتا منها. وكذلك ابن عيسى استشهد في تواريخه بالشعر النبطي في مواضع محددة، وسار على منوال من سلفه. والمنهج نفسه نجده عند غالبية مؤرخي نجد كالفاخري وابن ناصر في "عنوان السعد والمجد". ولكن ابن بسام في "تحفة المشتاق" يتوسع بعض الشيء ونجد لديه استشهادات لا بأس بها في عدة مواضع بالشعر النبطي. أما المؤرخ مقبل الذكير الذي يحمل منهجا مغايرا لكل من سبقه من مؤرخي نجد فيتوسع في استشهاداته بهذا الشعر محللا ومدققا. ونستطيع أن نعتبره هو الرائد الحقيقي للمدرسة التي تدعو للاستفادة من الشعر النبطي في دراسة التاريخ في نجد والجزيرة العربية. ونجد عند الشاعر إبراهيم بن محمد العبدالله القاضي استشهادات كثيرة بالشعر النبطي في تاريخه الذي صاغه باللهجة العامية المحكية. ويتجلى الأمر بشكل واضح عند الراوية محمد العلي العبيّد في "النجم اللامع"، الذي ملأه شواهد شعرية. وفي المؤلف المخطوط الذي كتبه الفارس الشاعر عيّاد بن خلف بن نهير، في سيرة أخيه الشيخ ندا بن حلف بن نهير الذي أسماها "الإيضاح في سيرة طير الفلاح" نجد بها مجموعة من الأشعار النبطية التي أوردها للاستدلال على بعض الحوادث، أو في المدح والرثاء. وتوسع ابن بليهد في "صحيح الأخبار" ليجعل الشعر النبطي مصدرا أساسيا يعتمد عليه في تسجيل كثير من أخبار الحروب والمعارك.
وعلى نطاق الدراسات الأكاديمية، كان الاستدلال بهذا الشعر شيئا غير محبب، أو أنهم لم يعوا مدى أهميته، حتى قدم الدكتور عبدالله العثيمين محاضرته "الشعر النبطي من مصادر تاريخ نجد" التي نُشرت في مجلة العرب لاحقا، ثم أصدر دراسته الرائدة "نشأة إمارة آل رشيد"، ورأى زملاؤه ما لهذا الشعر من أهمية تاريخية فغيروا وجهة نظرهم. وجاء بعد ذلك الدكتور السلمان في رسالة الدكتوراة "الأحوال السياسية في القصيم في عهد الدولة السعودية الثانية"، وهي دراسة قيمة ومفيدة. وتغيرت الصورة بعد ذلك، وأصبح هذا المنهج سبيلا متبعا عند أغلب الأكاديميين والباحثين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي