غياب الفلسفة
غياب الفلسفة عن مناهج التعليم والتداول في الحياة الثقافية.. ترتب عليه استشراء النمطية في التلقي والتلقين.. والحفظ في المدارس أو سيادة الانطباعية واستهلاك المصطلحات الحديثة بمعزل عن سياقها في خطابنا الثقافي، ما قطع الطريق على أسس النقاش العقلاني وديناميكية التفكير المنطقي والتحليل وإبداع الرأي قولا وكتابة ونشاطا.
ولدت كلمة فلسفة بالمصادفة، حين قال المعجبون لفيثاغورس: أنت حكيم (سوفي باليونانية) فقال لهم: لا .. أنا محب للحكمة (فيلو .. سوف).. لكن لا أحد يعرف ميلادا حقيقيا للفلسفة إلا أن مؤرخيها يذهبون إلى أن أول ميلاد وثائقي لها كان على يد الإغريق القدماء في القرن السابع قبل الميلاد..
وقد قيل في تعليل نشوء الفلسفة إنها جاءت كرد فعل على الجو الأسطوري والخرافي الذي كان مهيمنا على عقول الإغريق آنذاك في اعتقادهم بآلهة متعددين: للحرب والحب والحكمة والجمال والفنون والربيع والبحر والريح... مثل زيوس وأبوللو وبوسيدين أو أثينا وهيرا وأفروديت يتصارعون ويقومون بأعمال طائشة أو متحللة اعتبرها الفلاسفة الأوائل عالما خزعبلاتيا ولا معقولا.. فاتجهوا إلى البحث عن نسق معرفي للوجود يقبله العقل ويعمل لمصلحة الإنسان. وقد دفع سقراط حياته ثمنا فقد حكم عليه بالإعدام بشرب سم الشوكران بسبب إنكاره لتلك الآلهة الأسطورية واعتقاد بإله واحد.
بدأت الفلسفة مع الفلاسفة الذين عرفوا بالحكماء السبعة أو بالفلاسفة الطبيعيين مثل طاليس وفيثاغورس وهيروقليدس وديموقريطس، وبعدهم جاء السفسطائيون ثم الثلاثة المشاهير سقراط وأفلاطون وأرسطو.
لم يترك سقراط ميراثا مخطوطا إلا أن تلميذه أفلاطون سجل حوارياته في كتابه الشهير "جمهورية أفلاطون". أما أرسطو تلميذ أفلاطون فقد ترك مؤلفات عديدة ضاع معظمها لكن بقي منها ما جعله يسيطر بفلسفته على العقل البشري قرونا طوالا حتى زعزعه ديكارت الفرنسي وفرانسيس بيكون الإنجليزي في القرن الـ 17. ثم توالت الفلسفات بين مادية ومثالية.
كان الفلاسفة الإغريق والرومان قديما، وكذلك الفلاسفة العرب من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد فلاسفة موسوعيين يجمعون بين الطب والفلك والرياضيات وغيرها، كما كان الحال كذلك مع بداية النهضة الأوروبية وعصر العقل وعصر الأنوار، وظلت الفلسفة تعتبر أم العلوم إلى أن أخذت العلوم النظرية والتطبيقية تستقل عنها كل علم بذاته، ثم أصبح لكل علم فلسفة خاصة به مثل فلسفة علم الاجتماع وفلسفة التاريخ.. إلخ.
هذه الإشارة إلى تاريخ الفلسفة الذي من اليسير جدا اليوم الإبحار فيه بلمسة على محرك جوجل .. ومع أهمية ذلك والمتعة فيه، إلا أن الأهم بالنسبة لنا أن يعاد التواصل مع الفلسفة تربويا وثقافيا، فالطلاب في الغرب وكثير من دول العالم تعطى لهم جرعات فلسفية منذ المراحل المبكرة من الثانوية، أما في الجامعات، فلا سبيل للحصول على الشهادة دون دراسة مادة الفلسفة بل والتعمق فيها لمن يستدعي تخصصه ذلك.
تهتم الفلسفة بالوجود والمعرفة والقيم، وتسعى إلى فهم العالم والإنسان وتحاول التفسير والتعليل.. لماذا؟ وماذا؟ وكيف؟ لتكوين رؤية تجعل الإنسان يتواءم مع أخيه الإنسان ومع محيطه.
في القرن الـ 18 أخذت الفلسفة على عاتقها السير أبعد من الفهم والتحليل نحو التغيير، فأدى ذلك إلى تعميق استقلال العلوم المختلفة، كما أدى بالفلسفة نفسها إلى الانخراط في معترك الحراك الاجتماعي فولدت النظم الحقوقية والسياسية والمؤسسات المدنية، ومركزية العقل والعلم وإعادة الاعتبار للوعي الاجتماعي ودوره في صناعة المستقبل وليس الرضوخ له أو انتظاره أو الاحتراس منه!
وإذا كانت الفلسفة ذات علاقة بكل ما سبق وأنها ضرورة للفهم والتحليل والتغيير .. فهل يكون تعليم أو ثقافة من دونها؟ سؤال، قد يصادره الاحتجاج بالكفاءات العقلية والمهنية في كل مجال.. وهو احتجاج .. رغم الصواب فيه .. إلا أنه لا يفسر استمرار بعض الظواهر في فضائنا الاجتماعي مثل: خفة وزن مخرجات البحث العلمي عندنا أو ندرتها وتواضع إنتاجنا القاري، إذا استثنينا جيل الرواد وقلة قليلة جدا من الأكاديميين.
أما الظاهرة الأخيرة فهي ولعنا النظري المفرط في ندواتنا ومؤتمراتنا وكتاباتنا بمقولات مثل: التنافسية، العولمة، الشفافية، الحوكمة، الإنتاجية، الجودة، الكفاءة، مجتمع المعرفة، اقتصاد المعرفة، الاستدامة، والمسؤولية الاجتماعية.. إلخ، فهذه المقولات وسواها بنات أفكار عالم متقدم، هو الغرب، الذي لم يصل إليها إلا وفق منظور فلسفي، بالعصف الذهني والجدل الفكري المنطقي لكي يضع معايير لمضامين تلك المقولات وما ينبغي أن تكون عليه وما هو أفضل المناهج إليها..
إن غياب المنظور الفلسفي يلعب دوره في ضبابية الرؤية إزاء كثير مما نناقشه من قضايا وظواهر تربوية واجتماعية واقتصادية وثقافية وجنائية وحقوقية كالتطرف والإرهاب والفساد والعنف الأسري والتحرش الجنسي ومشاكل الشباب وتمكين المرأة.. ما يجعلنا ندور لمعالجتها في حلقة إعادة إنتاج الأساليب والمضامين الشكلانية أو العاطفية ذاتها..
حينا بالهرولة إلى اقتراح إنشاء جهاز أو وضع نظام أو آلية أو تشكيل لجنة وحينا آخر بإفراغ المعضلة في نصوص إعلامية حالمة كما في كثير من الاستراتيجيات والأهداف والسياسات التي تتخم خططنا التنموية..
إن ذلك كله.. يعود إلى رزوح عقلنا تحت إرث ثقيل طويل من النصوصية، بمعزل عن المنظور الفلسفي كإطار حاكم لعقلنة وضبط أسلوب التعامل مع ما نواجهه من قضايا وظواهر. فليست الفلسفة ترفا، ولا هي بعبع أيضا.. وما انفجارات العلوم والتقنيات وشموخ التقدم إلا مدينة على نحو أساسي للتطبيق العملي لهذا المنظور.