الفراغ .. ولعبة الأمم

كانت للعبة الأمم قواعد ومناطق نفوذ ومساحات مناورة وخطوط حمراء، وحين انهار المعسكر الشرقي .. بدأ الحديث عن روما الأمريكية ونهاية التاريخ باعتبار أن المسار الغربي والأمريكي على وجه الخصوص قد حسم مسار التاريخ في اتجاهه الليبرالي الديمقراطي.
جاء أول اختبار لانحسار لعبة الأمم بشروطها السابقة في الغزو الأمريكي للعراق وما ترتب عليه من تفكيك لأوصال الدولة العراقية وإتاحة التدخل الإيراني في شؤونه شيئا فشيئا مع الانسحاب الأمريكي منه وأدارت دفة الحكم فيه على أسس المحاصصة للشيعة الكلمة الفصل ثم تداعت عنت الأحداث الدموية من الزرقاوي إلى "داعش" اليوم، في هشاشة واضحة لقوام الدولة أدى إلى فرز طائفي مناطقي حتى صار للأكراد ما يشبه الاستقلال الذاتي!!
مع الثورة السورية وإحجام أمريكا عن لعب دور في السيطرة على مسار الأحداث، ومنع دول الإقليم من التدخل للحيلولة دون غشامة النظام الأسدي وتوافد الإرهابيين، تعقد المشهد لأن السياسة الدولية كانت بلا بوصلة لعبة أمم محددة، ما أتاح للصين ولروسيا أن تمارسا بإصرار حقهما بإفراط في مجلس الأمن باستخدام حق الفيتو عصا غليظة ضد أي قرار كان الغرب يجمع عليه لوقف تغول نظام بشار الأسد .. بل إن فقدان البوصلة شجع الروس مع إحساسهم بفعل الفيتو وانكفاء سياسة أوباما بعيدا عن التدخل على محاولة فرض شروط لعبة أمم جديدة تستوحي ماضي هذه اللعبة في الزمن السوفياتي فكان أن جاءت بأساطيلها الجوية الحربية وأقامت وعززت قواعدها في سورية بزعم محاربة الإرهاب فقصفت المدن والمدنيين تحت هذه الذريعة وفي مخططها أن تملأ فراغ القوة الذي تركه انهيار الاتحاد السوفياتي بقوة روسيا الاتحادية.
اليوم يذهب بعض المحللين بعد أن أعلنت روسيا انتهاء مهمة قواتها في سورية وسحبت جزءا منها مع الإبقاء على قواعدها، يذهب هؤلاء المحللون إلى أن روسيا استطاعت بالفعل فرض نفسها قوة أساسية في لعبة الأمم الجديدة، ولكنني أحسب أنها مع كل ذلك الاستعراض ليس بوسعها أن تكون كذلك ليس في سورية فحسب وإنما في المنطقة والعالم أيضا.
لقد اندفعت روسيا في هذا الاتجاه لكونها رأت أن أمريكا ليس بوسعها أن تملأ فراغ القوة وليس بإمكان إيران ذلك .. وأن أوان ذلك قد فات لاعتبارات نجمت عن سياسة أوباما الهزيلة والمترددة وأنه سيصعب معها العودة عنها حتى بعد مجيء رئيس آخر فسيتعذر عليه إقناع الكونجرس والشعب الأمريكي بعكسها .. كما يستحيل على إيران أن تخاطر فهي من ناحية لا تملك القدرات العسكرية ولا الاقتصادية التي تمكنها من المجازفة، فضلا عن استحقاقات الاتفاق النووي الدولي معها وأن أمريكا وروسيا أنفسهما لن تسمحا لها بذلك بحكم العلاقات بين الدولتين سواء في بنائها القدرات النووية لها أو في الخبرات العسكرية والتقنية التي أمدتها بها على مدى العقود الماضية ناهيك عن التهديد باستخدام القوة فيما لو اضطرت إلى ذلك.
إن شروط لعبة الأمم الجديدة وسماتها لم تتحددا بعد .. غير أن الحقيقة تبقى في أن الفراغ الذي نجم عن تهاوي لعبة الأمم السابقة ملأته جثث الشعوب العربية في سورية والعراق وليبيا وانهيار المدن وتشتت الملايين في السجون والملاجئ والنزوح والمخاطرة عبر البحار ذهابا لبلدان أوروبية تتقاذفهم عساكر حدودها من بلد إلى آخر، ويساوم عليهم في طاولات الساسة لحما حيا!!
فهل ستنجح روسيا في رسم ملامح لعبة أمم جديدة لمصلحتها؟ وهل تقوى على ذلك؟ وهل ستسلم أمريكا لهذا النزوع وتسايرها؟ وأين سيكون موقع الصين؟ فالصين وإن بدت غير مكترثة بهذا الطموح الروسي .. فليس بالإمكان إغفال أنها تعد نفسها منذ زمن لدور متعاظم في المستقبل القريب .. وأنها في صمتها الغامض تعطي لنفسها فرصة بناء قدراتها الاقتصادية والتقنية من خلال ترتيب بيتها الداخلي خصوصا بعد تباطؤ النمو الاقتصادي عندها .. وإلا فإن للصين حساباتها في لعبة الأمم القادمة وأمريكا تعي هذا وهي بسببه وجهت جل اهتمامها لتكريس نفوذها في منطقة المحيط الهادئ ولا صحة في أن الصين لا تولي المسألة اهتماما وأنها لا تشغل نفسها بالتدخل في الشؤون السياسية للدول أكثر من اهتمامها بالاستثمار .. فهي ليست استثناء وتعرف أن حماية الاستثمار لا يمكن ضمانها ولا التوسع فيه إلا بالقوتين العسكرية والسياسية اللتين تقوم عليهما لعبة الأمم لحماية المصالح الاقتصادية.
من هنا يمكن القول إن طموح روسيا في أن تكون بديل روسيا السوفياتية يظل طموحا لا سبيل لتحقيقه، فليست بقوة أمريكا ولا بقوة الصين، ولن تكون إلا طرفا في هذه اللعبة وبالقدر الذي يتيحه لها العملاقان الأمريكي والصيني ربما كالاتحاد الأوروبي نفسه .. هذا إذا لم تجهض الأوضاع الروسية القلقة في الداخل حتى هذا النزوع خصوصا أن أحد الأبعاد الضاغطة على بوتن لينسحب من سورية التكاليف الباهظة للحرب في وضع اقتصادي سيئ وتململ وسخط شعبي .. ولا عبرة في حفاوة الاستقبال الجماهيري المفبرك من قبل أجهزة الأمن الروسي للقوات العائدة للتغطية على ذلك والإيحاء بانتصار إن كان كذلك .. فهو انتصار مجلل بالعار!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي