توازن الأهداف شرط لنجاح التخصيص
تعد عملية تخصيص القطاعات العامة إحدى الوسائل التي تحقق عددا من الأهداف الاقتصادية التي تساهم في تعزيز النمو الاقتصادي. فمن ناحية يساهم التخصيص في زيادة كفاءة الخدمات المقدمة، ويزيد من التوسع في تقديم الخدمات لشريحة واسعة من المواطنين. ومن ناحية أخرى، يساهم التخصيص في تخفيف الأعباء المالية التي تتحملها المالية العامة لتقديم هذه الخدمات. لكن عملية التخصيص تنطوي أيضا على خيارات صعبة تتمثل في اختيار القطاعات التي يمكن أن تكون هدفا للتخصيص، حيث لا يمكن أن تكون كل القطاعات قابلة لذلك. كذلك، قد تنطوي عملية التخصيص على مخاطر كبيرة تتمثل في تضارب الأهداف بين الحكومة والقطاع الخاص حول أهداف المؤسسات التي سيتم تخصيصها، ما قد يؤثر في عملية تقديم الخدمات للمواطن. لذلك، فإن العامل المهم لنجاح أي عملية تخصيص هو إخضاعها لعملية مراجعة دقيقة تشمل جميع العناصر المتعلقة بها، بما يشمل الجوانب القانونية التي تساهم في تحقيق التوازن بين أهداف الحكومة وأهداف القطاع الخاص.
وعملية الإصلاح الاقتصادي التي تشهدها المملكة حاليا والتي بدأت بإطلاق «رؤية 2030» ترتكز بشكل أساس على مبدأ تعزيز كفاءة وتنافسية الاقتصاد وزيادة دور القطاع الخاص ليسهم بشكل أكثر في تقديم الكثير من الخدمات التي تقدمها الحكومة حاليا. لكن يجب عدم النظر إلى التخصيص على أنه العصا السحرية التي يمكن أن تتحقق منها مكاسب إيجابية على الإطلاق. كما أن النظر إلى التخصيص كوسيلة لتخفيض عجز الموازنة العامة للدولة هو في الغالب فخ وقع فيه كثير من الدول، حيث إن ذلك قد يؤدي إلى تخصيص قطاعات غير مناسبة. كذلك، فإنه يجب ألا نسلم بأن نموذج المنظمات الهادفة للربح هو النموذج الأفضل دائما من منظور الكفاءة لتقديم الخدمات العامة، وذلك بالنظر إلى تضارب أهداف الحكومة وأهداف القطاع الخاص. فالقطاع الخاص ينظر إلى مبدأ تعظيم الأرباح وبالتالي فإن ذلك يساهم في زيادة العائد لكل وحدة من المدخلات المستثمرة. لكن العائد الذي يسعى إلى تحقيقه القطاع الخاص يختلف عن مفهوم زيادة الإنتاجية والكفاءة على مستوى الاقتصاد، حيث إن الإنتاجية مفهوم أوسع من مجرد العائد، بحيث تشمل العوائد الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع ككل، بينما يمثل العائد مفهوما نقديا بحتا من وجهة نظر القطاع الخاص.
لنأخذ على سبيل المثال التوجه للاعتماد على القطاع الخاص لتقديم الكثير من الخدمات ومدى ما يمكن أن يتحقق للاقتصاد من عوائد اقتصادية تتمثل في زيادة الإنتاجية، وعوائد اجتماعية تتمثل في توافر خدمات أشمل وأفضل وبتكلفة أقل. هذا الأمر يتطلب توازنا دقيقا بين ما قد يتحقق من خلال منح القطاع الخاص دورا أكبر لتقديم خدمات يقدمها القطاع العام في العادة، كخدمات الصحة والتعليم، وبين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية على الاقتصاد ككل التي قد لا تكون في صلب اهتمامات القطاع الخاص. فما قد يبدو للوهلة الأولى على أنه مكسب اقتصادي عند تخصيص خدمات اقتصادية محددة كالخدمات الصحية، قد يكون له أثر سلبي إذا لم توضع له المتطلبات اللازمة التي تكفل حقوق المواطن بالحصول على خدمات صحية جيدة وبتكلفة معقولة. كذلك، قد تؤدي عملية التحول تلك في البداية إلى الإيحاء بأن هناك مكاسب مالية في جميع الحالات، تتمثل في تخفيف الأعباء عن موازنة الدولة، تحققت من خلال زيادة كفاءة الخدمات بتقديمها من قبل القطاع الخاص. لكنها قد تؤدي في الواقع إلى زيادة المخاطر بتحمل القطاع الخاص مخاطر أكبر وتحويلها إلى القطاع العام بعد ذلك في حال فشل عملية تخصيص أحد القطاعات. وهذه التجربة تكررت في عديد من الدول، حيث انتهى الأمر بالحكومة إلى تحمل تكاليف كبيرة نتيجة فشل بعض برامج التخصيص.
وفي النهاية، فإن نجاح عملية تخصيص الخدمات العامة سيعتمد على توافر استراتيجية واضحة لعملية التخصيص تأخذ في اعتبارها التوازن بين أهداف الحكومة التي هي في العادة تشمل تحقيق عدد من الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، وأهداف القطاع الخاص التي تركز على جانب تحقيق الربحية. وهذا يتحقق من خلال التصميم الجيد لبرامج التخصيص وتركيزها في القطاعات التي يمكن للقطاع الخاص الاضطلاع بها دون التأثير في جودة الخدمات المقدمة. وهنا يطرح السؤال الصعب وهو: ما القطاعات التي يمكن أن يستهدفها التخصيص في البداية؟ إحدى القواعد التي يمكن الاستناد إليها في ذلك هي توافر تعريف جيد وواضح للأهداف والعوائد التي يمكن أن تتحقق من تقديم الخدمة، حيث سيكون القطاع الخاص هو الأكفأ في تقديم الخدمة في هذه الحالة. لكن إذا كانت الأهداف أكثر تعقيدا، حيث تشمل أهدافا اجتماعية بجانب الأهداف الاقتصادية، فسيكون من الصعب إحداث توازن مقبول بين أهداف الحكومة وأهداف القطاع الخاص. وفي هذه الحالة، يمكن اللجوء إلى التخصيص المتدرج في القطاعات، كتخصيص الخدمات المساندة في القطاع الصحي واستمرار تقديم الخدمات الصحية الرئيسة من قبل القطاع العام.