لا تتشددوا ضد «سيلفي»
لا يوجد عمل "فني"، أو "علمي" من صنع الإنسان إلا وسيكون به من القصور ما يستدعي النقد ويحفز إثارة الآراء وبلورة وجهات النظر، ومن الأهمية بمكان أن يكون نقده مفتوحا ومتاحا، لكي يتحسن ويتطور ويتخلص من جوانب القصور من جهة، ويعزز جوانب القوة من جهة أخرى. وأهم من ذلك، لابد من الإيمان بأن الاختلاف في الرؤى ووجهات النظر ثراء كبير لأي عمل فني أو أدبي أو علمي، وكما يقال: "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع"، ولكن بشرط ألا يتحول الاختلاف إلى خلافات، وألا يؤدي النقد إلى عداوات وانشقاقات في المجتمع.
لقد فاجأنا الفنان ناصر القصبي بمسلسل رمضاني رائع بكل معاني الكلمة؛ رائع بأفكاره، ورائع بتنفيذه الفني، ورائع ومبدع بمعالجته الناعمة والموضوعية والمتوازنة لقضايا وطنية مهمة ذات حساسية كبيرة من النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية. إن "سيلفي" يجمع بين الطرافة والإمتاع، وبين الجدية والذكاء والموضوعية في تناول قضايا مهمة وحيوية معاصرة. لا أدري ماذا يخبئ "سيلفي" في الحلقات القادمة المتبقية، ولكني أشعر أنها ستكون بنفس مستوى الحلقات السابقة، إن لم تكن أفضل.
ما أسمع من اختلاف في الآراء ووجهات النظر حول هذا العمل الفني الرائع يذكرني بثقافة التشدد الشائعة في المجتمع التي لا تستند إلى أساس متين. فمن المستغرب أن بعض المنتقدين لهذا العمل الإبداعي لم يتابعوا العمل ولم يشاهدوا حلقاته، بل سمعوا عن غيرهم أو بنوا أفكارهم على انطباعات قديمة ترسبت في أذهانهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن بعضهم لا يسمح بوجود اختلاف ولا يؤمن بتنوع الأفكار والرؤى، بل ينظر إلى الأمور بمنظار ضيق، فمسائل الحياة البشرية معقدة ومتشابكة لا يمكن تجريدها وتسطيحها وتبسيطها في وجهة نظر واحدة. ومن المعروف أن التشدد والحساسية المفرطة في كثير من الأمور تقتل الإبداع، فلو أخضعنا أي عمل فني أو علمي للاعتبارات السياسية وكذلك الاجتماعية المتشددة، لن نجد أعمالا إبداعية تحمل قيمة مضافة في معالجة القضايا وإمتاع المشاهدين. لذلك ينبغي أن نحسن النية وننظر للأمور بمنظار أوسع، بل يجب –إن أردنا الموضوعية– أن نلتزم أسلوب النقد الذي يراعي الأمور التالية:
أولا: ينبغي على صاحب العمل أن يتقبل النقد الموضوعي لأي عمل فني أو إبداعي، ومن ثم عدم الشعور بأن النقد البناء يمس ذاته وشخصيته، فالنقد مشروع للجميع وفق أطر احترام آراء الآخرين.
ثانيا: ينبغي على الناقد توجيه النقد "للعمل" من جميع النواحي دون الدخول في النوايا وما تضمره القلوب، ودون المساس بذوات الأشخاص في أخلاقهم أو معتقداتهم الدينية، مع الإيمان بأن الله وحده يعلم ما تكنه الصدور وتخفيه الضمائر.
ثالثا: إحسان الظن بالآخرين، واستشعار أن الحقيقة أو المصلحة العامة لا يقررها إنسان واحد أو رأي واحد، ولا ينبغي للإنسان أن يكون وصيا وصاية كاملة على عقول الآخرين، بل عليه احترام العقول والآراء الأخرى، فكم من المسائل التي رآها كثيرون خطأ بواحا، ولكنها أصبحت محببة ومطلوبة لدى معظم الناس، مثل تعليم البنات واقتناء جهاز التلفاز ونحوه. وفي هذا السياق، يبرز في الذهن مبدأ الإمام الشافعي النير: "رأيي صواب يحتَمِل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
رابعا: ينبغي على الناقد أن يقرأ العمل الفني أو يشاهده، وألا يستعير عيون الآخرين وآذانهم وعقولهم في الحكم على العمل.
خامسا: أن ينظر الناقد للسلبيات وكذلك الإيجابيات، فأغلب الأعمال البشرية لا تخلو من الإيجابيات، فلا بد أن ينصف خصومه لكي يقبل بيانه وتستساغ حجته.
سادسا: الوعي بمسؤولية "الكلمة" وعدم إطلاق اللسان واليد بقول أو كتابة ما يخطر على البال أو يسمع من العامة دون تمحيص وتدقيق، فالكلمة سلاح ذو حدين، فإما أن تكون وسيلة تواصل وأداة بناء أو معول إقصاء وكراهية وهدم!
ختاما لا بد أن نشكر الكفاءات السعودية والخليجية التي أسهمت بجدارة وإبداع في إنتاج "سيلفي" وأن نثمن جهودهم، لما يتناوله هذا العمل الفني الرائع من قضايا ويعالج من مشكلات يعانيها المجتمع السعودي خصوصا والمجتمعات العربية عموما، ولكنه كغيره من الأعمال في حاجة إلى النقد البناء من جميع النواحي.