«جاستا» .. تعكير المياه للاصطياد
العلاقة السعودية ــ الأمريكية ترسخت على أساس استراتيجي ظل ممتدا منذ أواخر النصف الأول من القرن الماضي حتى الآن. ولعلها تعرضت لأول امتحان لها خلال حرب أكتوبر مع قطع النفط 1973، حيث شنت جماعات الضغط ودوائر الإعلام المغرضة هجوما شرسا على السعودية ما لبث أن خفت وتلاشى، لكنه أسس لسياسة الاستغناء عن نفط الخليج وما نجم عنها من اعتماد على النفط الأمريكي إلى أن بلغ الحال ما أصبح معروفا بمصادر النفط الصخري للمنافسة في إزاحة هيمنة النفط الأحفوري.
لم يعكر صفو هذه العلاقة الاستراتيجية سوى بعض المحاولات لجماعات الضغط والإعلام المرافق، عند كل مرة تعقد فيها المملكة صفقة سلاح نوعية.. ولعل صفقة طائرات الأواكس كانت من أبرز ما استحوذ على فضاء الإعلام حينها.
مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وتورط 15 شابا سعوديا في تلك الكارثة، هبت جماعات الضغط سواء الإسرائيلي أو اليمين المحافظ أو الانتهازيات الشخصية للساسة.. وبدا واضحا أن شهية الإدانة للسعودية تتجمع سحبها.. غير أن الحديث عن ذلك ما لبث أن توارى أو شبه ذلك.. ومع صدور الـ (28) صفحة في التقرير الذي يبرئ ساحة الحكومة السعودية.. ذهب الظن إلى أن الأمر تمت تسويته.
فجأة، عند فترة حرجة من عمر إدارة الرئيس أوباما، وفي ظل أدائها الضعيف الهزيل المرتبك والمتردد.. ارتفع الحديث عن "جاستا" على نحو لا يمكن القول فيه إلا أنه (أمر دبر بليل) كما يقول مثلنا العربي، دون أن يعني ذلك استسلاما لذهنية المؤامرة بقدر ما هو تشخيص لبرجماتية المصالح بل مكيافيليتها، الذي لا يقيم للمثل والشرف وزنا.
الآن وقد تم التصويت الساحق على "جاستا" وصار في مسار التنفيذ.. يعلو السجال الإعلامي والسياسي والحقوقي عما إذا كان من الممكن أن يؤدي فعلا إلى تعويضات مالية لذوي الضحايا، وما إذا كانت ثمة آليات قانونية قادرة على تحقيق ذلك؟!
لقد حاول أوباما وإدارته الحيلولة دون التصديق على "جاستا"، وأشاروا إلى كونه سابقة خطيرة لها انعكاساتها على الولايات المتحدة دولة ومواطنين، وعلى المنظومة الدولية، باعتباره يتعارض مع قانون حصانة سيادة الدول.. إلا أن هذه التحذيرات، ذهبت أدراج الرياح.. هذا إن أردنا أن نصدق أو أن تنطلي علينا البهلوانيات اللفظية لإدارة أوباما، بحكم كونهم فقط في سدة الحكم.. وإلا فإن من استعرت شهيتهم تمهيدا وإعدادا ثم إقرارا لقانون جاستا.. لا يبدو أنهم سيتورعون عن الدفع به لساحات القضاء لأسباب عديدة؛ منها تشويه سمعة المملكة والتشهير بها وجعلها مدانة بذاتها عن الإرهاب، وكذلك إقصاء السعودية عن تأثيرها وثقلها الاستراتيجي اقتصاديا وسياسيا وفي موازين الأعمال الإنسانية والمواقف.. كما أنه من ناحية ثالثة مسعى لدفع السعودية لمأزق اقتصادي سياسي يجعلها في وضع حرج يتوخون منه زعزعة أمنها واستقرارها.
هذا يعني أن جماعات الضغط، رغم كل ما يقال عن المصاعب الجمة في وجه تنفيذ "جاستا" وإلى حدود المستحيل، كما يذهب البعض، ليست في وارد التخلي عنه، وأنهم يتربصون للنفاذ إلى مبتغاهم من أدغال غابة القوانين والتشريعات الأمريكية المتشابكة المتباينة لتشق طريقا فيها يؤدي إلى هدفهم الخبيث، خصوصا وقد شهد العالم كثيرا من هذه الاختراقات في قوانين صاغتها أمريكا في الأساس، مثل مدونة منظمة التجارة العالمية والحماية والدعم والضرائب والجنسية، فالمشرع الأمريكي يعفي نفسه من الالتزام من منطلق الهيمنة الاقتصادية السياسية ولوبياتها فيلوي أعناق التشريع، ليكون مباحا له ممتنعا على غيره.
المراهنون على أن "جاستا" سيأكل نفسه من جراء فتح باب دعاوى شعوب وحكومات ودول قد تطالب أمريكا بالمثل.. رهانهم منطقي بالتأكيد.. كما أن المراهنين على أن "جاستا" سينوء كاهله تحت أثقال التكاليف والإجراءات التي على ذوي الضحايا المضي عبرها، رهانهم أيضا منطقي.. إنما سيبقى في الذهن أنه في عالم السياسة والجشع للمال ولعب الدور، لا يتورع أهلها عن الالتفاف على الحقيقة الصرفة والحق البين من أجل تحقيق أجندتهم.. وهي حتما أجندة يصعب معها الغفلة من أنهم لا بد قد وضعوا كل هذا السجال وغيره في حسابهم.
من المؤكد أن هذه الإشارات والتحوطات وأبعد منها في حساب الحكومة السعودية، والمتابع كذلك، كما أنه من المؤكد أن السعودية تدرك وتتحسب لما هو في قابل الأيام، وأن كل ذلك مسنود بذخيرة عتيدة عايشتها السعودية ولا تزال في أحداث عصيبة، في المواجهة بالموقف الصحيح على مستوى الفعل والإنجاز الواقعيين، فالعالم لا يستطيع أن ينكر أو يغالط في أن المملكة العربية السعودية، اكتوت بالإرهاب قبل غيرها، من أبنائها ومن غيرهم، ثم إنها قدمت المثال الشاهق المشهود له بالتصدي له وضربته في مقتل يفسر ما تعانيه اليوم من محاولات مستمرة لزعزعة أمنها الوطني في الداخل وتهديده من الجوار.. فضلا عن جهودها الثقافية والإعلامية ومشاركاتها في المؤتمرات الإقليمية والدولية، إلى جانب دورها في الحرب العالمية على الإرهاب.. فهذه كلها لها أوزانها النوعية الثقيلة جدا في المرافعة ضد ما يريده بها من وقفوا خلف قانون جاستا.. ليس اليوم وإنما منذ اللحظات التي راحت بعض الفضائيات تسلط الضوء على توافه لقرائن مفتعلة مثل صورة لجواز سعودي ملقى على الأرض في غبار خراب كارثة البرجين الشهيرين.. أو شحناء الصحافة والتلفزة والمواقع الإلكترونية التي راحت تسك وتدبج الأساطير والقصص الخيالية ومعها نقيق كتب ودراسات جماعات الضغط والابتزاز.. فكلها وما بعدها حاضرة اليوم في وعي القيادة للتعامل معها بهدوء ووفق الطرق الدبلوماسية.. إدراكا منها أن من جمعوا كلمات قانون جاستا لا يمكن أن تكون جعبتهم خلوا من تدابير تحقق لهم ما يهدفون إليه من إلحاق الأذى بالسعودية حكومة وشعبا على كل صعيد.. وأنهم مثابرون على ذلك.. وليس قانون جاستا سوى حجر ثقيل ألقي في مياه هذه العلاقة الاستراتيجية أريد به تعكير هذه المياه للاصطياد فيها.. بتدبير جماعات الضغط وتنافساتها وانتهازيات الساسة الشخصية وجشع سوق المحاماة والمستشارين ممن يلهثون وراءه تحرقا لمآرب شتى.. وكلنا أمل في أن قابل الأيام ستذرو رياحها وهمهم هذا.