فشل الرعاية الصحية العامة
تطرقت المقالة السابقة إلى فشل الأسواق في الرعاية الصحية، ولكن هذا لا يعني أن الرعاية الصحية العامة نجحت في تعظيم المنافع الصحية للمجتمعات. وتعاني الرعاية الصحية الحكومية - بوجه عام - من الفشل في تعظيم المنافع الصحية، حيث ترفع مجانية الخدمات الطبية الطلب عليها إلى مستويات تفوق عرضها، ما يولد عجزا شبه دائم في عرض الخدمات الصحية الحكومية. ومن المشاهد في كثير من الدول التي توفر رعاية طبية مجانية تكون قوائم انتظار لمدد طويلة في بعض الأحيان. ويسود اعتقاد بأن مجانية الرعاية الصحية– وخصوصا إذا كانت جيدة وفعالة - تولد مخاطر أخلاقية، من خلال تثبيط المستفيدين من تجنب المخاطر الصحية أو اتخاذ المحاذير اللازمة لحماية صحتهم، كما أنها قد تشجع بعضهم على الإفراط في استهلاك الخدمات الصحية. يقود الطلب المرتفع على الخدمات الصحية المجانية نظريا إلى تخصيص موارد إضافية فوق المستوى اللازم لتعظيم المنافع الصحية، ما ينتج عنه إهدار الموارد التي يمكن الاستفادة منها في مجالات أخرى. وهذا لا ينفي أن هناك عجزا في تقديم الخدمات الصحية العامة الجيدة في معظم دول العالم، الذي ينتج عادة من ندرة الموارد والضغوط المستمرة على الإنفاق الحكومي.
في كثير من دول العالم تعاني الخدمات الصحية العامة- مثلها مثل باقي الخدمات- سوء الإدارة أكثر من القطاع الخاص، حيث تزداد البيروقراطية وتعقيداتها وتكاليفها بشكل كبير وذلك لضمان تنفيذ السياسات والإجراءات الحكومية. وتعاني المؤسسات الحكومية بشكل عام من ضعف قدراتها في السيطرة على التكاليف أو تعظيم إنتاجية الموارد أو الإبداع. وتشير بعض الدراسات الدولية في عدد من بلدان العالم إلى ارتفاع معدلات تسيب الممارسين الصحيين بما في ذلك العاملين في الرعاية الصحية الأولية، إضافة إلى ذلك تميل المؤسسات الصحية العامة إلى محاولة خفض ضغوط المرضى على مواردها من خلال وضع عقبات وأنظمة إدارية تحد من عدد المستفيدين، أو تخفض مستويات ونوعية خدماتها أو تقلل خيارات المرضى. من جهة أخرى، يقود انخفاض قوى المنافسة بين المؤسسات الصحية الحكومية إلى التراخي في تقديم الخدمات الصحية أو خفض الحرص على التميز بها. وتتدنى قدرات هذه المؤسسات على تشجيع الممارسين الصحيين، أو معاقبة المقصرين منهم، أو منح الحوافز اللازمة لاستقطاب المهارات المتميزة بسبب الضغوط على الإنفاق العام، وأنظمة التوظيف، التي يتسم كثير منها بالجمود والعجز عن توظيف الأفضل، ما يؤدي إلى تسرب مستمر للكفاءات الطبية الكفؤة من المؤسسات الحكومية وتراجع جودة منتجاتها.
تقود الضغوط والمنافع السياسية المحلية والخارجية إلى التسرع أحيانا في اتخاذ القرارات وتبني سياسات صحية أو مؤثرة على الصحة العامة لإرضاء الرأي العام أو جماعات الضغط أو العلاقات الدولية. ويتعارض عديد من هذه السياسات مع جهود تعظيم المنافع الصحية، ما يتسبب في فشل الحكومة في تعظيم المنافع. وتأتي سياسات تخفيف القيود الصحية والبيئية على إنتاج وتجارة السلع والخدمات المحلية والمستوردة كأبرز الأمثلة على هذه السياسات. وتنخفض كفاءة المؤسسات الصحية الحكومية أيضا لارتفاع وقوعات الفساد في المشاريع، والمشتريات، وحجم ونوعية الخدمات المقدمة، والمواد الصحية مقارنة بالقطاع الخاص، ما يرفع من تكاليف المشاريع ويخفض منافعها وعدالة توزيعها بين الشرائح السكانية والمناطق الإدارية. وتقود الضغوط على الخدمات الصحية العامة أيضا إلى استغلال بعض المتنفذين لسلطاتهم لمنح أوليات العلاج لمرضى على حساب حالات مرضية أكثر حاجة للرعاية الصحية. كما تعاني القطاعات الصحية - الحكومية بوجه عام - من لعب المصالح الشخصية أدوارا قوية في تعيين مسؤولين أقل كفاءة في إدارة المرافق الصحية، ما يخفض قدرات هذه المرافق على تلبية الطلب المتنامي لخدماتها أو رفع جودتها.
توجد عديد من العوامل الأخرى التي ترفع مقدار فشل القطاعات الصحية العامة في تعظيم المنافع الصحية، ولكن هذا لا يعني بالضرورة عدم جدواها. وقد حقق عدد من دول العالم نجاحات كبيرة في تقديم الخدمات الصحية العامة. وتلعب القطاعات الصحية الحكومية أدوارا أساسية متميزة في حماية المجتمع من المخاطر الصحية العامة كالأوبئة، وكذلك في تقديم الرعاية الصحية الأولية، ونشر الثقافة الصحية والوقائية في معظم دول العالم، كما أنها أكثر عدالة في توزيع الخدمات وإيصالها إلى الشرائح السكانية والمناطق الأقل حظا. يمكن من خلال التطرق لعوامل فشل الرعاية الصحية العامة التعرف على أفضل السبل لزيادة انتشار ووصول الخدمات الصحية العامة ورفع جودتها، حيث ينبغي أن تخضع مؤسسات الرعاية الصحية العامة لأفضل معايير النزاهة للحد من تأثير ممارسات الفساد عليها. ولرفع جودة الخدمات الصحية الحكومية وكفاءتها وزيادة فاعليتها يمكن زيادة المنافسة الداخلية بين مؤسساتها وتحفيز فروعها ومنسوبيها على التميز. كما ينبغي للدول الحرص على تفعيل أفضل السياسات الداعمة للمنافع الصحية وبذل أقصى الجهود للتصدي لكل أنواع الضغوط المحلية والخارجية التي تؤثر سلبا في الصحة.