نحو فهم أعمق لسوق العقار

يميل البعض إلى تبسيط التغيرات التي تحصل في الأسواق بشكل عام بوضعها داخل دائرة المبدأ الاقتصادي الشهير (العرض والطلب)، لكن الواقع أن هناك بعدا آخر يحرك الأسواق وهو سلوك المتعاملين في السوق، وهذا الأمر ثبت بالدراسات التجريبية، وسوق العقار ليس بدعا من هذه الأسواق التي تتأثر بسلوك المتعاملين فيها كما يوضح هذا الأمر بيكر وريكياردي في كتابهما الصادر في عام 2014 بعنوان (سلوك المستثمر: علاقة علم النفس بالاستثمار والتخطيط المالي)، وقد بين الكتاب وفقا للدراسات التجريبية في فصل متخصص بمجال اتخاذ القرارات الاستثمارية العقارية وعلاقتها بعلم السلوك التمويلي، أن هناك دافعين أساسين لسلوك المستثمرين في العقار وهما ضعف مصادر الحكم وكذلك السلوك التحيزي.
الدافع الأول وهو ضعف مصادر الحكم، فمن المعلوم أن هناك كثيرا من المعلومات التي تغيب عن المتعاملين في السوق العقارية وهذا الأمر يكثر ويتضح بالنسبة للأفراد الراغبين في شراء منازلهم، حيث يعانون قلة المعرفة وضعف بيانات السوق، وكذلك ارتفاع إجراءات نقل الملكية مثل السعي وضريبة القيمة المضافة حاليا -ما عدا الإعفاء لمن يشتري منزله لأول مرة حتى مبلغ 850 ألف ريال- وكذلك يدخل في هذا المجال صعوبة تسييل العقار الذي يحتاج إلى أشهر في حال نشاط السوق، وإلى أكثر من سنة في حال الركود، وكل هذه العوامل المكلفة والطويلة المدى تؤدي إلى تمسك الملاك بما لديهم حاليا حتى لو كانت العروض مغرية، لأن البدائل ستحتاج إلى وقت وجهد لتحصيلها، كما ينتج من ذلك تراخي المشترين عن البت في قرار الشراء رغبة في الوصول إلى سعر مناسب، وفي وقت الركود بالذات، حيث يقل الطلب وتشح عروض الشراء من الملاك، نجد أن بعض الملاك يميلون للبيع بسرعة خشية عدم حصولهم على عروض شراء أعلى مستقبلا وتخوفهم من تحرك السوق نحو الانخفاض بشكل أكبر، في المقابل وبسبب خاصية الموقع للعقار التي تجعل كل عقار فريدا من نوعه ولا يوجد عقاران متماثلان، نجد بعض الملاك يميل إلى فرض سعره الخاص الذي يتمسك به مهما تغيرت أحوال السوق، وهذا قد يظهر جليا عند وجود علاقة عاطفية مع المنزل، مثل أن يكون منزل الطفولة أو الوالدين، أو منزل كبير العائلة الذي تجتمع الأسرة فيه دوما، ولذا نلاحظ في سوقنا المحلية بعض العائلات التي ترفض أن تبيع فيلتها الكبيرة القديمة التي لا يستخدمها أحد وذلك للتعلق العاطفي بها.
والدافع الثاني وهو السلوك التحيزي فيمكن أن يكون جراء ضعف الخبرة وهذا يغلب كما أسلفت على مشتريي الوحدات السكنية من عامة الناس، أو المستثمرين البسطاء أو غير المتخصصين الذين يدخلون السوق العقارية للاستفادة من ارتفاعاتها، ولا سيما في وقت الانتعاش وهنا يأتي تأثير الثقة العمياء -أجد أنها أبلغ بالتعبير من الثقة المفرطة- التي تتشكل غالبا عند غير المختصين أو حديثي العهد بالمجال، حيث يعمم تجربته البسيطة وقت الانتعاش على السوق بشكل عام، ما يجعله عرضة للخسائر وضعف التدبير خلال تقلبات السوق خاصة فترات هبوط الأسعار وركود الصفقات العقارية، كما أن الأبحاث أشارت إلى أن هؤلاء يعتدون بمهاراتهم عند النجاح ويضعون اللوم على سوء الحظ عند الفشل، وأن الأقل معرفة وخبرة غالبا تتكون عنده الثقة العمياء بعكس العارفين والمتخصصين، وفي سوقنا المحلية يمثل ما حصل في مجال المساهمات العقارية وتعثرها حالة واقعية، فعند التمعن في كثير من الحالات نجد أن هذه السمات هي الغالبة على من قام بجمع أموال الناس ثم ضيعها بجهله وعدم تحرزه للمخاطر المحتملة المصاحبة لمجال التطوير العقاري بالذات، ومن الملاحظات كذلك في حال انتعاش السوق أن من يبيع عقاره بهامش ربح جيد، غالبا ما يشتري العقار التالي بسعر مرتفع عن القيمة العادلة، وهنا تظهر علامات الثقة العمياء والخروج عن الأسس المنطقية في تقييم العقار لتظهر آثار الفقاعة عند انتشار هذا الأسلوب في البيع والشراء بين شريحة واسعة من المتعاملين في السوق لتتحول إلى سوق مضاربات حامية وتبتعد عن أسس الاستثمار السليم. والظاهرة السلوكية الأخرى هي ضعف التفاعل مع المعلومات، وهذا ملاحظ بشدة عند البائعين، ولا سيما عند وجود تغيرات اقتصادية تجدهم ما زالوا متمسكين بالأسعار السابقة، ويجدون صعوبة في الربط بين المتغيرات الاقتصادية الحاصلة، مثل تغير أسعار النفط منذ 2015 وتأثيره في اقتصاد السعودية، وانعكاس ذلك على أسواق العقار التي غالبا تحتاج إلى وقت وتدرج حتى يتضح تأثرها بعكس أسواق أخرى مثل أسواق المال أو النقد التي تستجيب بشكل أسرع لهذه المتغيرات.
الخلاصة، استيعاب سلوك المتعاملين في القطاع العقاري يعطي نظرة أوسع وتحليلا من أبعاد مختلفة لما يبدو غير منطقي من الوهلة الأولى، ولذلك برز علم السلوك التمويلي والاستثماري، كما أنه ليس من اللازم عند معرفة هذه المعلومات أن يتم استخدامها استثماريا بقدر أن يكون المتعامل في القطاع العقاري أكثر وعيا لما يجري حوله، ولذا أنصح المهتمين بالقطاع العقاري الالتفات لهذا الجانب الممتع من المجال، والاطلاع على المستجدات فيه لما فيه من إثراء الجانبين العاطفي والذهني للعقاري المهني.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي