والتسول فنون أيضا؟!

[email protected]

كما أن "الجنون فنون" فـ "التسول" أيضا فنون, فمن أنواعه التسول بفن التقليد, والتسول بفن تدبيج الخطابات والمعاريض, والتسول بفن الكلام الموزون المقفى الذي يطلق عليه غالبا "الشعر" رغم عدم علاقته في معظم الأحيان بالشعر أو حتى الشعير!
وكما تعلمون فإن ظاهرة التسول بجميع فنونها ظاهرة قديمة قدم التاريخ نفسه, والمتسول المحترف هو في حقيقة الأمر شخص مريض ومدمن على هذا السلوك الدوني ولايمكنه التخلص منه إلا بالعقاب أو العلاج, وعلى الرغم من أن أكثر دول العالم تكافح هذه الظاهرة ما زالت فنون التسول تتطور, حتى بات هناك المتسول الإلكتروني والمتسول الفضائي, وهذا ما أخرج الظاهرة عن السيطرة, فلا يمكنك مثلاً أن تعبث بجهاز الريموت كنترول متنقلاً من قناة فضائية إلى أخرى دون أن تصفعك إحداها بمنظر متسول أنيق تحت مسمى شاعر أو فنان أو أي شيء.
بين عامي 2003م و2006م عملت رئيساً لتحرير إحدى المجلات الخليجية وهي مجلة تحظى بشهرة جيدة في الوسطين الفني والثقافي, وقد تحولت لاحقاً إلى قناة فضائية تبعاً لنظرية النشوء والارتقاء لــ "داروين"!
كانت تلك المجلة مقصداً للكثير من الموهوبين في الفنون الكتابية وأشباههم الموهومين والكثير من الفنانين الذين يحرصون على إبراز أخبارهم الجديدة لتطير بها ركبان الساحة الفنية, لكنني أعترف الآن أنها كانت مقصداً للمتسولين أيضاً، لا تستغربوا كثيراً فالمتسولون موجودون في كل مكان وزمان, ومن ذكرياتي التي مازال الكثير من الأصدقاء يتندرون علي بها قصتي مع شاب أنيق حضر لأكثر من مرّة إلى المجلة طالباً اللقاء بي في أوقات متأخرة من الليل بينما أنا أغط في سبات عميق, وفي كل مرة كان يسأل موظف الاستقبال عن مواعيد حضوري ويترك أرقام هواتف غير صحيحة واسما يتبدل كل ليلة, ما أثار ريبة جميع العاملين في المجلة, لكنه ولسوء الحظ قرر بعد مرور أكثر من شهر أن يحضر خلال وقت الدوام, طبعاً استقبلته ورحبت به بحفاوة تقديراً للتعب الذي بذله طوال ذلك الشهر.. ولا أخفيكم أن هيئته وطريقة حديثه ونوعية ملابسه أوحت لي بأنه من أثرياء البلد المغمورين الذين يقررون بين فترة وأخرى أن ينشروا صورهم في المجلات مهما كلف الأمر, لكنه لم يمهلني كثيراً قبل أن يفاجئني بطلبه أن أقبل منه هدية أحضرها وتركها في سيارته لكبر حجمها, فقفز عرق الكرامة لدي قفزة مضرية, ورفضت قبولها مخبراً إياه بأن هذا السلوك غير سوي ولا يليق أبداً وهو عبارة عن "رشوة فأنا رجل لا أعرفه ولم ألتق به في حياتي، فبأي مناسبة ملفقة يمكن أن أقبل هديته الكبيرة؟
غضب الرجل وأكد أنها مجرد هدية رمزية وهي عبارة عن أبيات شعرية من تأليفه وقد كتبها بخط يده مدحاً لي على لوح من النيون, فتراجعت معرباً عن أسفي ومقدراً لطفه الجم الذي جعله يمدحني شعراً دون سابق إنذار أو معرفة، فما كان منه إلا أن استأذن لإحضار تلك الهدية من السيارة، وقد فوجئت حينما أحضرها من مظهراللوح الذي توقعت حينها أنه وجده بقرب حاوية نفايات (كانت رائحته مقززة بحق)، إضافة إلى أن الكلام المكتوب عليه بخط غير مفهوم لايمكن أن ينسب لأي لغة بشرية, لدرجة أنني شككت في الوضع العقلي للرجل, لكنني قدرت له ذلك وشكرته وانتظرت أن يخرج ليحضر عامل النظافة ويقذف بتلك الهدية في أقرب حاوية, لكنه لم يخرج وظل جالساً دون كلام فاستأذنته بالخروج من المكتب لقرب انتهاء وقت الدوام, فرد بجملة استفهامية مازالت ترن في أذني حتى اليوم هي: "ما فيه شيء طال عمرك؟", فعلمت حينها أن الرجل أخذ مقلباً وتوقع أنني مليونير أوزع المال على الناس, وهو أمر جعلني أضحك وأجاريه لأرى أين سيصل, فمثلت دور المليونير قائلاً له "مر علينا في وقت آخر وإن شاء الله تجد خير", طبعاً كنت أريد تصريفه لا أكثر, لكن الحيلة لم تنطل عليه, وهو ما جعله يطلب مني قيمة الألوان التي كتب بها على ذلك اللوح على الأقل وهي "50 ريالا" بحسب قوله لحاجته الماسة إليها, فاضطررت إلى إعطائه الخمسين لأتخلص من الموقف, فأخذها وأخذ اللوح ذا الرائحة معها وهم بالرحيل, فضحكت من منظره وسألته عما ينوي فعله بذلك اللوح, فرد بملامح جامدة بقوله "أترزق به" ومضى!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي