الاستقرار المالي وسياسات تحفيز الاقتصاد
في كلمته الأبوية والصريحة الموجهة للمواطنين والمقيمين بالسعودية قال خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان: "لقد تعودتم مني على الصراحة، ولذلك بادرتكم بالقول بأننا نمر بمرحلة صعبة، ضمن ما يمر به العالم كله". وفقا لمنظمة الصحة العالمية، تجاوز عدد الحالات المبلغ عنها لمرض الفيروس التاجي، 300 مليون حالة على مستوى العالم. وقد ازدادت خسائر الأرواح من جراء تفشي مرض فيروس كورونا بمعدل مثير للقلق بينما المرض آخذ في الانتشار وتواجه إيطاليا انهيارا في القطاع الصحي ليفوق عدد الحالات فيها، مثيلتها في الصين، وفي أوروبا والولايات المتحدة ينتشر الفيروس بمعدل متزايد. وضاعفت الإجراءات، التي اتخذتها السلطات لإبطاء انتشار الفيروس، من تأثير تفشي المرض في الاقتصاد “إن التحدي هو أنه كلما بذلت السلطات مزيدا من الجهد للتخفيف من مستوى العدوى، فإننا في الواقع نزيد من تضاعف التأثير الاقتصادي. بسبب جهود احتواء الأزمة التي تحد من الحركة، وارتفاع تكلفة ممارسة الأعمال نظرا للقيود على سلاسل الإمداد، وتقليص الائتمان. وكذلك انخفاض الطلب بسبب ارتفاع عدم اليقين وزيادة السلوك التحوطي، وتصاعد التكاليف المالية التي تحد من القدرة على الإنفاق.
فنحن نتعامل مع أزمة مزدوجة: أولا: حالة طوارئ صحية عامة على العالم. وثانيا، أزمة اقتصادية وركود عالمي " شبه حتمي" كما ذكره الأمين العام للأمم المتحدة". فكما وضح خادم الحرمين الشريفين "ستتحول هذه الأزمة إلى تاريخ يثبت مواجهة الإنسان واحدة من الشدائد التي تمر بها البشرية".
لقد بينت لنا الأسابيع الماضية كيف يمكن لأزمة على مستوى الصحة العامة، حتى إن كانت مؤقتة، أن تتحول إلى صدمة اقتصادية حيث قد يتسبب كل من غلق أماكن العمل، وتراجع ثقة المستهلكين والمسلك التقشفي لمؤسسات الأعمال، واضطراب الأسواق في تفاقمها وإطالة أمدها. ومع تزايد السياسات الاحترازية. يزداد التأثير الاقتصادي.
إن الاستقرار الاقتصادي يتطلب اتخاذ إجراءات على صعيد السياسة المالية الكلية، لمعالجة صدمات العرض والطلب التي أشرت إليها آنفا. وينبغي أن يكون الهدف هو اتخاذ إجراءات تؤدي إلى تأثير اقتصادي طويل الأمد. واتخاذ هذه الإجراءات في الوقت المناسب وتوجيهها بدقة نحو القطاعات ومؤسسات الأعمال والأفراد الأشد تضررا. إن ما يحدث من ضعف شامل في الطلب من خلال قناتي الثقة وانتقال التداعيات – حيث شمل التجارة والسياحة وأثر في أسعار السلع الأولية وتشديد الأوضاع المالية – ما يتطلب استجابة إضافية على مستوى السياسات لدعم الطلب والتأكد من كفاية عرض الائتمان. سيتعين كذلك توفير قدر كاف من السيولة لموازنة مخاطر الاستقرار المالي.
إن الاستقرار المالي أساس للاستقرار الاقتصادي، ويعكس قدرة القطاع المالي على التحوط ضد الأزمات الداخلية والخارجية، واستمراره في أداء وظيفته المتمثلة في توجيه الموارد المالية إلى قطاعات الاقتصاد بكفاءة، وكذلك الاستمرار في أداء المدفوعات بكفاءة، لدى المملكة احتياطيات حيث تقع السعودية خامس دولة في العالم من حيث احتياطيات النقد الأجنبي، وتزيد أصول صندوق الاستثمارات العامة على 1.2 تريليون ريال، وهناك متسع للاقتراض حيث حلت السعودية بين أقل 18 دولة حول العالم من حيث انخفاض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية، حيث بلغت 19.1 في المائة بنهاية العام الماضي، لذا قد تلجأ الحكومة إذا احتاج الأمر إلى الاقتراض على ألا تزيد نسبة الاقتراض على 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي فهذه القدرة المالية مؤشر للاستقرار المالي في السعودية. إضافة إلى قدرتها على إمكانية تنويع مصادر التمويل بين الدين العام والاحتياطي.
مع استمرار تزايد انتشار الفيروس، قامت السعودية بتقديم حزمة تحفيز ثانية لدعم اقتصادها وذلك بطرح بـ70 مليار ريال لتخفيف آثار «كورونا» في الاقتصاد والقطاع الخاص، وتخصيص 50 مليارا من القطاعات الأقل تضررا وتوجيهها للقطاعات المحتاجة إلى دعم مثل المصارف والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، لو لزم الأمر. وكذلك قامت الدولة بتبني عدد من قرارات إلغاء أو خفض الرسوم على عدد من الإجراءات خلال الأسبوعين الماضيين إضافة إلى تخصيص ميزانية طوارئ لتغطية التكاليف المترتبة من جراء «كورونا»، يتوقع أن تتوجه للقطاع الصحي ولدعم الاقتصاد إذا استلزم سياسات تحفيزية إضافية. ووجهت الدولة هذه المبادرات لتوفير الدعم للفئات الأشد تأثرا. مثل الشركات الصغيرة – كما سارعت إلى اتخاذ الترتيبات لتوفير الائتمان المدعوم بهدف دعم زيادة إنتاج المعدات الصحية والأنشطة الحيوية الأخرى التي تدخل في نطاق الاستجابة لتفشي الوباء. تدخلت الدولة في مرحلة مبكرة لدعم أسواق المعاملات بين البنوك وتوفير الدعم المالي للشركات الواقعة تحت الضغوط، وحماية سعر صرف الريال، حيث اتخذت مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) قرارا بخفض سعر الفائدة، تماشيا مع «الفيدرالي الأمريكي»، وضخ 50 مليارا بالبنوك، لتوفير سيولة للتمويل. وتحفيز البنوك على الإقراض للشركات الصغيرة التي تمثل 20 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، واستخدام التيسير الكمي لتوفير الائتمان.
إن المملكة فاقت عديدا من دول العالم في التعامل مع انتشار «كورونا» بحرفية ورصدت كل مؤسسات الدولة لمحاربة انتشار الفيروس. وتكاتف المواطنين والتزامهم بتوجيهات تلك المؤسسات يدل على صلابتها وثقتها بالتعامل مع أصعب تحديات القرن الحادي والعشرين.