الكرنتينة

لم نكن نعرف نعمة مكان فيه حرية الحركة ومتعة التنقل والقرب الاجتماعي ورؤية من نحب متى أردنا وفي كل وقت، إلا بعد أن حرمنا منها. يعتقد كثيرون أن الحجر الصحي فكرة جديدة جاءت مع تطور العلم وسبل الوقاية، لكن الواقع يقول غير ذلك، ففكرة العزل أو الحجر الصحي بدأت قبل معرفة البشر بالفيروسات.
يذكر أن أول حجر صحي مورس كان في القرون الوسطى عند تفشي الأمراض المعدية، فما كان أمامهم إلا هذه الوسيلة لوقاية أنفسهم وبلادهم من ذلك الخطر المجهول الذي يجتاحهم.
وأول من طبق الحجر الصحي جمهورية كانت تدعى قديما "راجوزا"، التي تعرف اليوم بمدينة دوبروفينك، وتقع جنوب كرواتيا. تميزت راجوزا بوقوعها على الساحل الأدرياتيكي، حيث يعج ميناؤها بالسفن والبضائع ويستقطب التجار من جميع أنحاء العالم، وعندما تفشى الطاعون في القرن الـ14 في دول البحر الأبيض المتوسط والبلقان، خشي مجلس الجمهورية من الموت المقبل إليهم، فأصدروا قانونا ينص على وضع التجار والبحارة والسلع المقبلة من المناطق الموبوءة بالطاعون في غرف للحجر الصحي شهرا، وفي حال عدم ظهور أعراض المرض عليهم يسمح لهم بدخول المدينة. واختاروا ثلاث جزر خارج أسوار المدينة، ليقضي القادمون إلى الجمهورية فترة الحجر فيها، ومع الأسف لم تكن تلك الجزر مهيأة لعيش البشر، وكانت أماكن الحجر فيها بلا سقف، أي أنها لا تحقق العزل المنشود، لذا رأت السلطات بناء أكواخ خشبية، ثم تطورت في منتصف القرن الـ15، لتصبح مرافق صحية متكاملة محاطة بأسوار عالية وحراس لمنع هروب المحجورين، وقاموا بتوفير عديد من الخدمات مثل، تخصيص أطباء لخدمة المرضى وكهنة للعناية بالنواحي الروحية وحلاقين للعناية بنظافة ومظهر المحجورين، ولم ينسوا حفار القبور.
لقد سنوا قوانين صارمة وعقوبات مشددة بالسجن لكل من يخالف نظام الحجر، كما منعوا دخول البضائع طوال فترة الحجر، ما انعكس سلبا على حركة التجارة فيها، لكن صحة المواطنين كانت الأهم بالنسبة إليهم.
في البداية كانت مدة الحجر شهرا، تم تمديدها إلى 40 يوما، لاعتقادهم أنها لم تكن كافية لاحتواء المرض، ومن هنا أخذ الحجر الصحي اسمه "الكورنتينة أو الكرنتينة" المشتقة من الكلمة الإيطالية "كورانتين" ومعناها الرقم 40، أثبتت الـ40 يوما فاعليتها، فقد تبين لاحقا أن فترة الإصابة بالطاعون الدبلي تصل إلى 37 يوما، لذا انخفضت نسبة الإصابة بالطاعون بشكل كبير، واليوم سيرى الزائر للمدينة مرافق الحجر الصحي قائمة، لكنها تستخدم للتسلية والاستجمام.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي