الحضور الوجيز
الأشياء الجميلة لا تدوم. تمنحك بضعا منها وتغادر على عجل. تتركك ظمآنا لها وجائعا لحضورها. تجيد الغياب باحتراف. سرعان ما تشرق عليك وتسعدك، وترحل فجأة. تنتظرها طويلا، وعندما تصل تختفي سريعا. بلا مقدمات تودعك وتغيب. محمد بن عصام الخميس، رحمه الله، من الشخصيات الجميلة التي لم نكد نتعرف عليها ونكتشف دهشتها وسحرها، حتى غادرتنا.
شاب لم يتجاوز 27 عاما، لكنه كان مؤثثا بحكمة الكبار وسمتهم.
لم أتقاطع مع طرحه إلا قبل عام تقريبا. ولفتني نهمه بالأرقام، وتبسيطه للمعلومة الاقتصادية.
وأسعدني أكثر، حرصه على نقل المعرفة إلى الآخرين. اكتشفت - بسعادة - بودكاست "زورق"، الذي كان يقدمه بحب وتفان ولهفة.
صرت أتابع مشاركاته في "تويتر" و"سناب شات" باهتمام بالغ، إثر فرادة طرحه وانسيابيته، وحسن اختياره للموضوع.
أذكر أنه طرح موضوعا لامس أحد زملائي، وتواصل معه، وفوجئ به يدعوه إلى استراحة عائلته في العمارية، ليتعرف إليه ويجيب عن استفساراته.
شاب في مقتبل العمر، وسط كل هذه المغريات والملهيات، يدعو شخصا لا يعرفه، إلى حوار مفتوح بلا مقابل، شيء يدعو إلى الاعتزاز بهذه الشخصية الجديرة بالحب.
يروي لي صديقه أحمد القصبي، أن محمدا يقيم لقاء شهريا، يدعو إليه المهتمين، أسماه "ديوانية 2030"، يتناول فيه الموضوعات الاقتصادية والفرص الاستثمارية بلغة سهلة ويسيرة.
تكتظ تلك الديوانية بشباب زاخر بالطموح.
تلك المبادرات الجميلة التي قادها محمد، وذلك الحضور الحيوي الأخاذ، الذي كان يملؤه ويملؤنا قبل مغادرته، يعكس أننا كنا أمام شخصية مختلفة. كان ينتظرها مستقبل مشرق ومضيء. ولكن ما عند الله أعظم وأجزل.
إن إفشاءنا وإشاعتنا وإجماعنا على إبداع محمد، بعد أن فاضت روحه إلى بارئها، يدعونا إلى أن نتأمل فيمن حولنا.
ثمة عدد كبير من المبدعين والجميلين أمثال محمد، يحتاجون إلى أن نلتفت إليهم، ونربت على أكتافهم. ونعبر ونبوح لهم عما يعترينا من مودة تجاههم.
إن أحبتنا ليسوا بحاجة إلى رثائنا المتأخر، وإنما إلى مديحنا المتقدم.
جرب أن تتصفح الوجوه حولك، أو السطور التي انسابت إلى أعماقك، أو الآراء التي أسعدتك، لتدرك أن هناك كثيرا من الأحياء الذين يستحقون احتفاءك وتشجيعك، قبل أن تغيب ابتسامتهم.
رحمك الله يا محمد وأدخلك فسيح جناته، وربط على قلوب أسرتك وأحبتك، الذين لن يتوقفوا عن الدعاء لك بالمغفرة والجنة.