البعد الاقتصادي والاستثماري للبطولات الرياضية
في عالم اليوم ارتبط تنظيم البطولات الرياضية بالفوائد الاقتصادية وعوائدها الاستثمارية بعد أن تحولت الرياضة إلى صناعة رائجة تعد من أهم نشاطات الأعمال والبزنس خاصة في العالم المتقدم، إذا ضربنا مثلا بمونديالات كأس العالم وبطولات الأمم الأوروبية التي اختلف تنظيمها عن الدورات السابقة، حيث أخذت منحى اقتصاديا بحتا للشركات الكبرى ودورا مهما في رعايتها ودعمها، بل أصبحت جزءا لا يتجزأ من مشاريع صناعة السياحة، وتتمثل الفائدة الكبرى على المدى البعيد، وليس فقط في استضافة الفرق والمشجعين من جنسيات العالم المختلفة، وعلى الجماهير أن تدرك هذا، ولا تركض وراء الفوز بالبطولة فحسب، لأن الفوز الأكبر الذي تركض وراءه الحكومة هو تحقيق مكسب اقتصادي اقتصادي وليس رياضيا فحسب، هذه النظرة الاقتصادية ليست في مجال كرة القدم، بل في كل ضروب الرياضات الأخرى، فصارت هذه البطولات ميدانا تنافسيا لمعظم الشركات الكبيرة والمشهورة في العالم. فقد اتجه الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" في منتصف السبعينيات اتجاها اقتصاديا قويا بتنظيم بطولات كؤوس العالم وبعد حقق كثيرا من الفوائد المالية ودعم كثيرا من اتحادات القارات والوطنية التي كانت تعاني شح وضيق مواردها المالية.
أخيرا جرت المباراة النهائية لكأس الأمم الأوروبية بين المنتخبين الإيطالي والبريطاني في العاصمة البريطانية لندن، ولقد أعطت الحكومة البريطانية لهذه المباراة أهمية كبرى رغم الظروف الصحية السيئة التي يمر بها العالم وأوروبا خاصة، ووعدت جمهورها البريطاني بكثير من العطايا والحوافز، كما وعدت لاعبيها بمنح ومكافآت مالية سخية، بل كسرت قوانين الاحترازات الصحية وفتحت استاد ويبلي الشهير على مصراعيه أمام 70 ألف متفرج دون اتباع قواعد التباعد الاجتماعي، ولبس الكمامات، وكذلك غسل اليدين. ومع الأسف، فإن الجمهور المكتظ في الملعب كان مرتعا خصبا لوباء كورونا الذي انتشر في الأجسام العارية كما تنتشر النار في الهشيم.
ولذلك فإن رئيس منظمة الصحة العالمية حذر بشدة من مغبة هذا "الانكشاح" على وباء كورونا، وندد بفتح ملعب ويبلي أمام الجماهير دون اتباع قواعد وشروط التباعد الاجتماعي والجسدي. الأكثر من هذا أن الحكومة البريطانية منحت شعبها البريطاني إجازة رسمية في اليوم التالي إذا فاز المنتخب البريطاني بالكأس واللقب، وأيضا وعدت بتقديم كثير من العطايا والهدايا للاعبين. لكن ما حدث هو أن الرياح أتت بما لا تشتهي السفن البريطانية وخسر المنتخب البريطاني المباراة الثمينة التي خطفها منه زميله المنتخب الإيطالي.
ومع الأسف، عقب انتهاء المباراة بفوز المنتخب الإيطالي انفجرت الجماهير البريطانية على كل شيء أمامها وزحفت إلى الشوارع واقتحمت المراكز التجارية وحطمت واجهاتها، ثم اتجهت نحو لاعبي منتخبها من جنسيات أخرى ونددت بمشاركاتهم مع المنتخب البريطاني ذي الأعراق النظيفة والراقية وطالبت بإلغاء عقودهم وطردهم من الأندية البريطانية، ولم تكتف بهذه الفوضى، بل اقتحمت مواقع الجماهير الإيطالية وحدث عنف غير لائق، وشهدت ساحات لندن مباريات في المصارعة والملاكمة من الوزن الثقيل، ولم يكتف الجمهور البريطاني بنشر الفوضى، لكنه أيضا ندد بالحكومة البريطانية التي صرفت أموالا طائلة على هذه المباراة وبددت أموال الدولة دون مبررات وطنية معقولة.
إن هذا الانفجار الجماهيري في ميادين كرة القدم يذكرنا بالانفجار الجماهيري الذي اندلع عام 2014 في شوارع ريو دي جانيرو في البرازيل، حينما زحفت الجماهير البرازيلية إلى الشوارع وحطمت المراكز التجارية والمحال الفارهة الثرية، ودمرت كل ما وقع أمام عينيها، وكانت الجماهير تعيب على الحكومة البرازيلية أنها صرفت أموالا طائلة لا مبرر لها على المنتخب البرازيلي، الذي خسر مباراته أمام خصمه اللدود المنتخب الألماني بنتيجة مخزية وهي 0 / 7.
لكن ما يجب أن تعرفه الشعوب أن تنظيم مباريات البطولة ومونديالات كأس العالم أو تنظيم الدورات الأولمبية لم تعد احتفاليات باذخة، وإنما تنظيم هذه المسابقات العالمية بات وسيلة من وسائل تنفيذ المشاريع الاستثمارية الكبرى وتحقيق الأرباح، بل أضحت وسيلة جيدة من وسائل تنشيط الاقتصاد الوطني وتسريع تنفيذ برامج التنمية المستدامة.
لا جدال أن الرياضة أصبحت أحد أهم المصادر للنمو والرخاء الاقتصادي، والفوائد التي كانت تنتظرها الحكومة البريطانية على النشاطين الاجتماعي والاقتصادي من خلال الفوز ببطولة كأس أمم أوروبا فوائد كبيرة، وكذلك فإن الفوائد التي كانت تنتظرها الحكومة البرازيلية من تنظيم كأس العالم عام 2014 لا تتوقف على العائد الاقتصادي السريع من استضافة الاحتفالية الرياضية، وإنما تتطلع لما هو أكبر وأكثر على المدى الطويل، فالثقة التي كان يحتاج إليها الاقتصاد البرازيلي في ذلك التاريخ للخروج من دائرة الركود الاقتصادي جد مهمة، ثقة المستهلكين، والمستثمرين، والمنظمات الدولية.
إن أهمية هذا الحدث الرياضي في بريطانيا، وكذلك في البرازيل تمتد لما هو أبعد من تنظيم البطولة، الفرصة هنا تتمثل في تحسين جودة الحياة للشعب البريطاني وكذلك الشعب البرازيلي، وزيادة الدخل، وتحديث البنية التحتية وزيادة معدلات النمو والتنمية في جميع المجالات، حيث تم توسيع وتحسين المطارات والموانئ ووسائل المواصلات والنقل، وشق وتعبيد الطرق، وتحسين قطاع الاتصالات، وغيرها من التدابير التي تمت في وقت قياسي قبل بدء البطولة هنا أو هناك.
وأنا أذكر أنه حينما أسندت اللجنة التنفيذية للفيفا إلى البرازيل استضافة مونديال 2014 حددت الحكومة البرازيلية سبعة أهداف رئيسة من خلال تنظيم المونديال: أولا: وضع مقاييس ومؤشرات لتنفيذ أول كأس عالم في إطار التنمية المستدامة. ثانيا: وضع سيناريوهات للاستثمارات وتأثيرها في الناتج المحلي الإجمالي للدولة ككل ولكل مدينة تستضيف البطولة على حدة. ثالثا: دراسة آثار وتداعيات هذا الحدث في الناتج المحلي الإجمالي لقطاعات الاقتصاد. رابعا: دراسة عمليات إدارة النجاح والسمعة والتسويق الإعلامي والإعلاني والمعلوماتي لهذا الحدث الكبير. خامسا: وضع مخطط تفصيلي لتقييم المخاطر وتقليل التداعيات السلبية وسد الثغرات وتحقيق الآثار الإيجابية. سادسا: طرح الفرص والإمكانات والمبادرات التي تزيد وتعمل على استدامة الفوائد من هذا الحدث الرياضي التاريخي. سابعا: تقدير الآثار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لنهائيات كأس العالم 2014.
واضح مما سبق أن تنظيم البطولات الرياضية إذا أخذنا كأس الأمم الأوروبية مثالا، أو مونديالات كأس العالم أصبحت جزءا لا يتجزأ من مشاريع صناعة السياحة، وتتمثل الفائدة الكبرى على المدى البعيد، وليس فقط في استضافة الفرق والمشجعين من جنسيات دول مختلفة، وعلى الجماهير أن تدرك هذا الهدف، ولا تركض وراء الفوز بالبطولة فقط، لأن الفوز الأكبر الذي تركض وراءه الحكومة هو تحقيق عوائد اقتصادية في المقام الأول.