محطات للتفكير والتأمل الذاتي
تفرض تكاليف الحياة ورتمها المتسارع نمطا يشبه الدوامة التي ما أن ننتهي فيها من مهمة إلا وتعقبها أخرى في مشهد متكرر ومرهق في كثير من الأحيان، سواء في الحياة الشخصية أو المهنية. ومع مواصلة الاجتهاد والعمل الدؤوب للوفاء بالالتزامات وتأدية الواجبات الآنية، قد يغيب عن الإنسان الصورة الكلية والسياق الذي يعمل فيه ومن أجله، أو قد لا يستطيع أن يلبي متطلبات المرحلة المقبلة في حياته من التطور والنماء بسبب عدم استفادته من تجاربه السابقة أو أخطائه الماضية.
من الممارسات الصحية والعادات الحميدة لتصحيح بوصلة اتجاهاتنا في الحياة أو تحقيق أهدافنا المرجوة، سواء المرتبطة بالأهداف الشخصية أو حتى في عالم المال والأعمال، التوقف لبرهة قصيرة وتخصيص ذلك الوقت للتأمل فيما مضى، وإعادة تقييم جملة أعمالنا والتفكير في كيفية الاستفادة من تجاربنا السابقة لتصحيح الأخطاء وتعظيم المكاسب المستقبلية. إن تخصيص محطات زمنية للتوقف والتأمل يتجلى نفعها إذا مورست بشكل منتظم ودوري، في ظل صفاء العقل وغياب مشتتات الذهن.
وتتأكد ممارسات التأمل الذاتي self-reflection إذا علم الإنسان عدم ديمومة الموارد المتاحة له، أو وفرة الظروف السانحة على امتداد العمر، وهذا ما يؤكده حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك". فالتقييم والتفكير المتزن للمراحل المختلفة التي نعبرها، غالبا ما يساعدنا على الاستغلال الأمثل للموارد والظروف المتاحة، والبناء على المكتسبات المحققة وتفادي أخطائنا السابقة. وقد كان الشعور بضيق الوقت وانقضائه سريعا في شهر رمضان المبارك بين تأدية الواجبات والالتزامات سواء الشخصية أو المهنية باعثا للحديث عن موضوع التأمل والمراجعة الدورية الذاتية.
من النماذج في كيفية إجراء ممارسة التأمل أو التفكير الذاتي بشكل فعال نموذج "جيبس" الانعكاسي الذي طوره المؤلف البريطاني جراهام جيبس ويتكون من ست مراحل مختلفة. تبدأ المرحلة الأولى بالوصف للحدث محل الاهتمام، لتقديم تفاصيل عما حدث بشكل دقيق. يلي ذلك مرحلة معرفة الشعور والمشاعر التي كان يمر بها الشخص في ذلك الوقت. أما ثالث تلك المراحل فهي عملية التقييم لهذا الموقف أو الحدث ومعرفة الجوانب الإيجابية أو السلبية المحيطة به بإعمال التفكير النقدي. بعد التقييم، يقترح النموذج إجراء تحليل لمجريات الأحداث المحيطة بهذا الموقف أو ذاك، وربطها بمواقف أخرى مررنا بها، لكنها ذات علاقة بشكل أو بآخر. مرحلة التحليل تعقبها مرحلة استقاء الدروس واستخلاص النتائج من هذا التمرين أو التأمل الذاتي. ولكن حتى يستفاد من هذه الممارسة، لا بد أن تترجم تلك الدروس المستفادة إلى خطة عمل واضحة وهذا ما اقترحه نموذج جيبس.
من الوسائل المساعدة واليسيرة لممارسة عملية التفكير الشخصي أو التأمل الذاتي تكريس جزء من الوقت للاختلاء بالنفس، إما بشكل أسبوعي أو شهري في أماكن هادئة. أيضا ممارسة الرياضة بشكل دوري تعد حافزا لترسيخ التأمل الذاتي ليكون جزءا من العادات الشخصية. من الأفكار الجميلة التي اطلعت عليها، اتخاذ مذكرة لتدوين أبرز الأحداث اليومية، واستخدامها لفترة تمتد إلى ثلاثة أو خمسة أعوام على سبيل المثال، حيث تدون الأحداث اليومية لكل تاريخ في صفحة واحدة لجميع تلك الأعوام. أخيرا، أعتقد أن اتخاذ محطات للمراجعة والتأمل الشخصي ليست ضرورية للاستغلال الأمثل للأوقات والموارد فحسب، بل تبقى مهمة للصحة النفسية أيضا.