عالمية علم الاقتصاد مرة أخرى
نشرت لي "الاقتصادية" مقالة بعنوان "عالمية علم الاقتصاد"، في العاشر من أيار (مايو) 2009. وكان الباعث، كما ذكرت في بداية المقال، أن بعض الكتاب يرون أن علم الاقتصاد معبر عن قيم وثقافة الغرب. وقلت إن هذا الكلام غير دقيق، بل هو غير صحيح، هكذا على إطلاقه.
وأنهيت المقالة بسرد سبعة معايير يبنى عليها علم الاقتصاد، وهي ليست على سبيل الحصر: حب الاستزادة من متاع الدنيا، وكون الموارد لها حدود ومقادير، ووجود خاصية الاختيار، وحق الملكية الخاصة، ودور التنظيمات والقوانين والنظم في قيام الأنشطة الاقتصادية، وأهمية الحوافز، وأن التبادل يجلب فائدة لكلا الطرفين.
وعلقت على ذلك أن المعايير أو الأصول السابقة تعبر عن صفات بشرية، بغض النظر عن الدين أو الموقع الجغرافي، ولكن تظهر خلافات في تفاصيل.
انتقد البعض وصفي معايير علم الاقتصاد بأنها عالمية. ومن الذين انتقدوا القارئ الفاضل محمد عبد الهادي ومما قاله في معرض تعليقه "... فما قد يوصف بأصول علم معين، لم أجد في كتب المنهج العلمي والتفكير العلمي المعاصر ما يفيد بأنها مطلقة لا تحتمل التغيير أو التعديل". وقال "النسبية والبعد عن الإطلاق والتعميم هو ديدن العلماء المعاصرين..." وقال "فهم ما لعلم ما يعتمد على فهم فئة معينة ولا يستلزم ذلك تعميما ...". وقال "ولكن أشعر بأن وصفها أصول بأنها عالمية ربما يكون مبالغا فيه...".
أشكر له نقده، لكنه يبدو لي أن جزءا كبيرا من الخلاف لفظي لا حقيقي، أو أنه راجع إلى سوء فهم لما يقصده علماء الاقتصاد بعالمية علم الاقتصاد. إذ إن عبارات من قبيل "مطلقة" و"النسبية" و"البعد عن التعميم" عبارات مسلم بها في المنهج والتفكير العلمي بالمعنى المعاصر. وليس في مقالتي ما يشير إلى أنني أنظر إلى أن أصول أو معايير علم الاقتصاد مطلقة، ولم يقل بذلك أي عالم اقتصاد أو متخصص فيه يفهم معنى البحث العلمي حق الفهم. كلمة عالمية تعطي معنى غير ما تعطيه كلمة مطلقة. والأمر بحاجة إلى إيضاح.
المدخل للإيضاح هو أن وصف الجنس كطائفة أو جماعة بوصف لا تعني الانطباق الحرفي للوصف على كل فرد من أفراد الجنس. وهذه قضية لغوية، ولها بعد ديني، ولذا ناقشها علماء اللغة العربية وعلماء الدين. مثلا وردت أحاديث تفيد العموم مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..." (الصحيحان)، ولم يقل أحد من علماء الدين بأن كل فرد من قرن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير من كل فرد من القرون التالية أو أن كل فرد من الذين يلون قرن الرسول خير من كل امرئ جاء بعدهم، وإنما قالوا هذا من حيث الطبقة العامة لا من حيث كل فرد بذاته.
هناك فرق بين قانون ينطبق على الأفراد من حيث المتوسط أو بتعبير آخر المجتمع باعتباره وحدة واحدة، وقانون ينطبق على كل فرد، فمثلا نقول (في علم الاقتصاد) يزداد الاستهلاك بزيادة الدخل، ونقول تزداد الكمية المطلوبة مع انخفاض السعر. هذان القانونان يتناولان جنس الأفراد وجنس السلع، ولا يعني أن كل السلع وكل الأفراد متماثلة في انطباق القانونين. فإن قيل إنهما في هذه الحالة لا يصلحان أن يسميا قاعدة أو قانونا، قلنا أصبح الخلاف لفظيا لا حقيقيا.
وبهذا المعنى من الصعب أن نقبل بوصف معايير علم الاقتصاد غامضة، لأجل أنها لا تنطبق على كل آحاد الناس، وتبعا لذلك، لا أتفق مع وصف الفيلسوف الشهير هوسرل (صاحب مقدمة في المنطق المحض) لقواعد أو قوانين علم ما (كان تركيزه على علم النفس) بأنها غامضة، لأنها قواعد مبنية على تعميم التجربة، أو تعميم الاستقراء. وعند هوسرل أنه نظرا لأن العلوم الكونية نسبية احتمالية تقوم على السببية، فإنه لا يصلح التعميم. وربما يتحول الخلاف في الأخير إلى لفظي.
هل لنا أن نقول بإمكان وجود مجتمع لا يزيد استهلاكه مع زيادة دخله؟ هل يمكن أن يقع ذلك، مع أننا نعرف أن الاحتياجات والرغبات البشرية لا حصر لها، مقابل موارد في هذه الدنيا لها حدود ومقادير. الوقت والأرض موردان من موارد الإنتاج، ولو قال قائل إننا لا نملك إثباتا على محدودية الأعمار، أو لا نملك إثباتا على أن الكرة الأرضية ليست ذات مساحة لا تنتهي بحدود، فإن مثل هذه المناقشات تتحول إلى جدل لا طائل عملي أو تطبيقي من ورائه.
نحن نستخدم في علم الاقتصاد تعبير عالمية ولا نستخدم تعبير مطلقة. وأرغب ممن يشكك في عالمية تلك المعايير، أن يدلني على سبيل المثال، على مجتمع عندما يزيد دخله لا يزيد استهلاكه، أو مجتمع لا ينطبق عليه قوله سبحانه "زين للناس حب الشهوات" أو مجتمع يتصف أفراده بعدم تأثرهم بالحوافز،... إلخ المعايير. والمقصود، طبعا كما أسلفت، طبقة المجتمع باعتباره وحدة أو كتلة واحدة، لا من حيث كل فرد فيه. وبالله التوفيق،،،