المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ودور «منشآت» «1 من 2»

شهدت هذه الصفحة مقالات عديدة حول البحث العلمي والإبداع والابتكار، وأهمية وصول الابتكار إلى السوق، لكي يستطيع الإسهام في التنمية وتعزيز استدامتها. وتحدث المقال الأخير عن حاضنات الأعمال التي تهتم بتفعيل الابتكار، عبر رعاية مؤسسات ناشئة تستند إليه، وتنمية إمكاناتها، وتفعيل نشاطاتها، وصولا بها إلى القدرة على الاستقلال وتحقيق الأرباح والاستمرار في ذلك. يخطو هذا المقال خطوة إلى الأمام، في مجال الابتكار والمؤسسات والسوق، ليطرح موضوع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة SMEs، ودورها في التنمية في دول العالم، والدعم الذي تحتاج إليه لتعزيز نجاحها. ويركز المقال أخيرا على أهمية دور الهيئة السعودية العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت"، تمهيدا للمقال المقبل الذي سيتطرق إلى دورها ونشاطاتها.
هناك بعض الإحصائيات العالمية اللافتة بشأن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ومثال ذلك إحصائية نشرها صندوق النقد الدولي IMF، حول كوريا الجنوبية، الدولة التي شهدت، خلال الربع الأخير من القرن الـ20، قفزة اقتصادية كبيرة نقلتها إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة. تقول الإحصائية إن عدد المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في هذه الدولة يصل إلى 99 في المائة من مجمل عدد المؤسسات، وإن التوظيف في هذه المؤسسات يصل إلى 83 في المائة من مجمل عدد الوظائف، وإن صادرات هذه المؤسسات إلى الخارج تصل إلى 34 في المائة من مجمل الصادرات. ولعلنا نذكر هنا أن ذلك يحدث بالتوازي مع معطيات مؤسسات كورية عملاقة، بالمقاييس العالمية، كمؤسسات صناعة السيارات هيونداي وكيا، وكمؤسسات صناعة الإلكترونيات سامسونج وإل جي.
يدل مثال إحصائيات المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في كوريا الجنوبية على دورها المهم في توليد الثروة ودفع عجلة التنمية إلى الأمام من ناحية، وعلى دورها في توظيف الثروة البشرية والاستفادة من قدراتها من ناحية ثانية. ولا شك أن أثر توظيف الثروة البشرية ليس اقتصاديا فقط، بل إنه اجتماعي أيضا، يؤدي إلى تأمين حياة اجتماعية سليمة تسهم في تحقيق أمن المجتمع، وفي توفير أمانه. وتبرز الأهمية المستقبلية العالمية للتوظيف الذي تحققه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة من دراسة، يطرحها صندوق النقد الدولي، تقول إن العالم سيحتاج إلى 600 مليون وظيفة خلال الأعوام الـ15 المقبلة.
بناء على ما سبق، تسعى الدول المتطلعة إلى مستقبل أفضل إلى تقديم الدعم الذي تحتاج إليه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة عبر وسائل مختلفة من أجل تعزيز نجاحها، وتفعيل دورها الاقتصادي والاجتماعي. وفي هذا الإطار، تضع الدول تعريفات محددة لهذه المؤسسات من أجل تحديد استحقاقاتها من الدعم اللازم. وتعتمد مثل هذه التعريفات على عاملين رئيسين هما حجم المؤسسة من جهة، والمصادر المتاحة لها من جهة أخرى. وسنقدم في التالي التعريفات التي تتبناها المفوضية الأوروبية، الذراع التنفيذية للاتحاد الأوروبي، بشأن حجم المؤسسة، حيث ينتشر تبني هذه التعريفات في دول كثيرة حول العالم.
تقيس هذه التعريفات حجم المؤسسة تبعا لعوامل ترتبط بعدد موظفي المؤسسة، وحجم مبيعاتها، إضافة إلى حجم الأصول المتوافرة لديها مع أخذ الالتزامات في الحسبان. وتنقسم التعريفات في هذا المجال إلى ثلاثة أقسام. قسم يعرف المؤسسات التي يدعوها صغيرة جدا أي "مايكرو Micro"، وقسم ثان يعرف المؤسسات التي يدعوها "صغيرة Small"، ثم قسم ثالث يعرف المؤسسات التي يدعوها "متوسطة Medium".
تعد المؤسسة، طبقا للتعريفات، صغيرة جدا عندما يكون عدد العاملين فيها أقل من عشرة أشخاص، وحجم مبيعاتها أقل أو يعادل مليوني يورو، وكذلك حجم أصولها المحددة. وتعد المؤسسة صغيرة عندما تزيد الأرقام عما سبق، ليصبح عدد العاملين بين عشرة وأقل من 50 شخصا، ولتصل المبيعات والأصول إلى أكثر من مليوني يورو، مع وجود حد أقصى قدره عشرة ملايين يورو. ثم تعد المؤسسة متوسطة عندما يصبح عدد العاملين فيها بين 50 وأقل من 250 شخصا، وتصل مبيعاتها إلى أكثر من عشرة ملايين يورو، مع وجود حد أقصى للمبيعات قدره 50 مليون يورو، مع حد أقصى للأصول قدره 43 مليون يورو.
ونأتي إلى الوسائل المتاحة للدول لتقديم الدعم الذي تحتاج إليه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. ويمكن النظر إلى هذه الوسائل من خلال ثلاثة محاور رئيسة، محور تنظيمي، ومحور مالي، ثم محور معرفي. يتضمن المحور التنظيمي جانبين رئيسين، جانب تسهيل التشريعات والإجراءات المتعلقة بتسجيل المؤسسات، لتمكين أصحاب الأفكار والمبتكرات من إقامة مؤسساتهم وتفعيل إمكاناتهم، ثم جانب توفير البنية الأساسية التي تؤمن التواصل، وحركة الأعمال، والخدمات المختلفة التي تحتاج إليها المؤسسات.
وننتقل إلى المحور المالي، وله كالمحور التنظيمي جانبان أيضا. الجانب المالي الأول هو جانب تمويلي مباشر يهتم بتسهيل تأمين قروض ميسرة تحتاج إليها المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتفعيل نشاطاتها. أما الجانب المالي الثاني، فهو جانب دعم مالي غير مباشر يتمثل في تقديم تسهيلات ضريبية لهذه المؤسسات تعزز فرص نجاحها واستمرارها. ونصل هنا إلى المحور المعرفي الذي يشمل جانبين رئيسين كسابقيه. يختص الجانب المعرفي الأول بالدعم الحكومي للتعليم والتدريب والبحث العلمي والإبداع والابتكار، الذي يرفد المؤسسات بثروة بشرية تتمتع بالمعرفة والمهارات اللازمة للمؤسسات المنشودة. ويهتم الجانب المعرفي الثاني بحاضنات الأعمال التي ترعى المؤسسات الناشئة وتسعى إلى تنميتها ضمن بيئة السوق المحيطة، حيث يحتاج ذلك إلى معرفة متكاملة، علميا وتقنيا واقتصاديا وقانونيا أيضا، فضلا عن التمويل المالي اللازم لكل ذلك.
وهكذا نجد أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مؤسسات واعدة، أثبتت أهميتها، بل إنها باتت ضرورة للاستجابة لمتطلبات المستقبل من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية. ولعلنا نجد أيضا أن تمكين هذه المؤسسات من العطاء، ومن الوفاء بوعودها المأمولة يحتاج إلى دعم حكومي، يشمل جوانب تنظيمية وأخرى مالية وثالثة معرفية، ينبغي تأمينه، خصوصا أن هذا الدعم يمثل استثمارا وطنيا مهما من أجل المستقبل. ولا شك أن الهيئة السعودية العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة "منشآت"، أدركت ذلك. ولنا في المقال المقبل، بمشيئة الله، حديث حول دور هذه الهيئة ونشاطاتها... يتبع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي