نهوض عولمة متماسكة من رماد العولمة المفرطة «2 من 2»
مع انهيار العولمة المفرطة تنظر سيناريوهات الاقتصاد العالمي في كامل الاختيارات المتاحة. وأسوأ النتائج، عندما نتذكر ثلاثينيات القرن الـ20، قد يكون انسحاب دول أو مجموعات من الدول إلى الاكتفاء الذاتي. ويتمثل احتمال أقل سوءا، لكنه يظل بغيضا، في أن تفضي سطوة الحسابات الجيوسياسية إلى اندلاع الحروب التجارية وتحول العقوبات الاقتصادية إلى سـمة دائمة للتجارة والتمويل الدوليين. يبدو السيناريو الأول غير مرجح، فالاقتصاد العالمي يتسم بقدر من الاتكالية المتبادلة أكبر من أي وقت مضى، وستكون التكاليف الاقتصادية بالغة الضخامة، لكن من المؤكد أننا لا نستطيع استبعاد السيناريو الثاني. مع ذلك، من الممكن أن نتصور سيناريو ملائما حيث نتمكن من إيجاد توازن أفضل بين امتيازات الدولة القومية ومتطلبات الاقتصاد المفتوح. قد تعمل إعادة التوازن على هذا النحو على تمكين الرخاء الشامل في الداخل والسلام والأمن في الخارج.
تتمثل الخطوة الأولى في قيام صناع السياسات بإصلاح الضرر الذي لحق بالاقتصادات والمجتمعات بسبب العولمة المفرطة، فضلا عن سياسات السوق أولا الأخرى. يتطلب هذا إحياء روح عصر بريتون وودز، عندما كان الاقتصاد العالمي يخدم الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المحلية، التشغيل الكامل للعمالة، والازدهار، والعدالة، وليس العكس. في ظل العولمة المفرطة، قلب صناع السياسات هذا المنطق رأسا على عقب، حيث أصبح الاقتصاد العالمي الغاية والمجتمع المحلي هو الوسيلة. ثم أدى التكامل الدولي إلى التفكيك المحلي.
قد يساور القلق بعض المراقبين من أن يتسبب التأكيد على الأهداف الاقتصادية والاجتماعية في تقويض الانفتاح الاقتصادي. الواقع أن الرخاء المشترك يجعل المجتمعات أكثر أمانا وميلا إلى تأييد الانفتاح على العالم. يتمثل أحد الدروس الرئيسة المستفادة من النظرية الاقتصادية في أن التجارة تعود بالفائدة على أي بلد ككل، لكن هذا لن يتحقق إلا بمعالجة المخاوف المتعلقة بالتوزيع. من المصلحة الذاتية للدول جيدة الإدارة والتنظيم أن تكون منفتحة. وهذا أيضا الدرس المستفاد من التجربة الفعلية في ظل نظام بريتون وودز، عندما تزايدت أحجام التجارة والاستثمار طويل الأجل بشكل كبير.
يتلخص شرط ثان مهم لأي سيناريو جيد في امتناع الدول عن تحويل السعي المشروع لضمان الأمن الوطني إلى عدوان على آخرين. ربما تكون مخاوف روسيا معقولة بشأن توسع حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لكن حربها في أوكرانيا تأتي ردا غير متناسب على الإطلاق ومن المرجح أن تجعل روسيا أقل أمانا وازدهارا في الأمد البعيد.
من منظور القوى العظمى، والولايات المتحدة خصوصا يعني هذا الاعتراف بتعددية الأقطاب والتخلي عن السعي إلى فرض الهيمنة العالمية. الواقع أن الولايات المتحدة تميل إلى النظر إلى الهيمنة الأمريكية في الشؤون العالمية على أنها الوضع الطبيعي للأمور. من هذا المنظور، يشكل تقدم الصين الاقتصادي والتكنولوجي في جوهره وبشكل بديهي تهديدا واضحا، وتختزل العلاقات الثنائية بين الدولتين في مباراة محصلتها صفر.
إذا نحينا جانبا مسألة قدرة الولايات المتحدة على منع صعود الصين النسبي فعليا، فإن هذه العقلية شديدة الخطورة وهـدامة. فهي بين أمور أخرى، تؤدي إلى تفاقم المعضلة الأمنية. ذلك أن السياسات الأمريكية المصممة لتقويض الشركات الصينية مثل "هواوي" من المرجح أن تجعل الصين تستشعر التهديد فتستجيب بطرق تؤكد مخاوف الولايات المتحدة من النزعة التوسعية الصينية. كما أن النظرة المستقبلية ذات المحصلة الصـفرية تزيد من صعوبة جني المكاسب المتبادلة المترتبة على التعاون في مجالات مثل تغير المناخ والصحة العامة العالمية، مع الاعتراف بأن الأمر لن يخلو بالضرورة من المنافسة في عديد من المجالات الأخرى.
باختصار، ينبغي لعالمنا في المستقبل ألا يكون ذلك العالم حيث تتفوق الحسابات الجيوسياسية على كل شيء آخر وحيث تحرص الدول أو التكتلات الإقليمية على تقليص تفاعلاتها الاقتصادية بين بعضها بعضا. إذا تحقق هذا السيناريو البائس، فلن يكون هذا راجعا إلى قوى جهازية خارجة عن سيطرتنا. فكما هي الحال مع العولمة المفرطة، سيكون السبب أننا اتخذنا اختيارات خاطئة.
خاص بـ «الاقتصادية»
بروجيكت سنديكيت، 2023.