هل شارفت أمريكا على الإفلاس؟ (2-2)

إن عجز ميزان المدفوعات الأمريكي كان أيضا من الناحية الكلاسيكية أحد أسباب اضطراب نظام المدفوعات على المستوى العالمي، وهناك ثلاثة أنواع من عجز ميزان المدفوعات الأمريكي، الأول العجز التجاري حيث تستورد الولايات المتحدة أكثر مما تصدر، والثاني هو العجز الناجم عن حركات الرساميل، حيث تشتري الشركات الأمريكية شركات أجنبية، والعجز الثالث وهو الأهم وهو العجز الناجم عن إنفاق ''البنتاجون'' في الخارج، الذي يمثل الإنفاق العسكري الأمريكي. وخلال العقود الخمسة السابقة كان الإنفاق العسكري الأمريكي مسؤولا عن جانب كبير من العجز في ميزان المدفوعات، ولتمويل اقتصاد في حالة حرب شبه دائمة أغرقت الولايات المتحدة العالم بالدولارات، وتذهب هذه الدولارات بعد استبدالها بالعملات المحلية إلى البنوك المركزية، وهنا تواجه البنوك المركزية للدول المختلفة مشكلة أساسية وهي أنه لا بد من إنفاق هذه الدولارات في الولايات المتحدة، وإلا فإن معدل صرف عملاتها بالنسبة للدولار سيأخذ في التزايد، الأمر الذي يؤثر بصورة سلبية في تنافسية صادراتها، ومن ثم لا تجد هذه البنوك خيارا آخر سوى إعادة تدوير هذه الأموال في الولايات المتحدة من خلال شراء الدين الحكومي، أي أنها وبشكل غير مباشر تمول الإنفاق العسكري الأمريكي، وقد مكن مثل هذا الوضع الفريد الولايات المتحدة من أن تطبع الدولار دون أي قيود لشراء وارداتها من الخارج ولتمويل توسعاتها العسكرية. غير أن بعض الشواهد تشير إلى أن هذا الوضع بدأ ينحسر الآن، وأنه إذا ما توقفت الدول الأخرى عن شراء السندات الأمريكية قد يصبح من غير الممكن للولايات المتحدة الاستمرار في الإنفاق العسكري على النحو الذي تسير عليه الأمور حاليا، وهي معضلة استراتيجية، فالولايات المتحدة في حاجة مستمرة إلى تعزيز إنفاقها العسكري كقوة عظمى ولتثبيت سيطرتها في عالم أحادي القطب، ومن ثم فإنه إذا ما أصرت على الاستمرار في إنفاقها العسكري عند مستوياته الحالية فلا بد أن تنخفض دخول الأمريكيين بشكل كبير من خلال الضرائب، وبلغت ميزانية الإنفاق العسكري الأمريكي في عام 2008 نحو 623 مليار دولار.
وحاليا يطمئن الرئيس أوباما وكذلك وزير خزانته تيموثي جايثنر الجميع بإمكانية استدامة الوضع الحالي وأنه حالما تنتهي الأزمة ستعود الولايات المتحدة مرة أخرى إلى اتباع سياسات مالية متحفظة. غير أن البعض يشكك بشدة في إمكانية حدوث ذلك طارحين ثلاثة سبل للخروج من الخلل المالي الذي تعانيه الميزانية الأمريكية وهو أولا: زيادة الضرائب على نحو كبير، أو خفض الإنفاق الحكومي بشكل جذري، وهما خياران مستبعدان في ظل ظروف الأزمة، أو ثانيا: السماح بتضخم جامح لتخفيض القيمة الحقيقية للدين المحلي ومن ثم تدمير قيمة الدولار، أو ثالثا: التوقف عن سداد الدين الفيدرالي وهو ما يعد إعلانا رسميا بالإفلاس. ومما لا شك فيه أن إعلان التوقف عن السداد سيحمل آثارا رهيبة على النظام الاقتصادي العالمي، سواء المالي أو الاقتصادي أو على صعيد العلاقات الدولية أو التحالفات الاستراتيجية.
إن استمرار عجز ميزان المدفوعات وتزايد عجز الميزانية ومن ثم تصاعد الدين الأمريكي، مع سياسات نقدية تضخمية لا تعطي خيارا للدول ذات الفوائض الدولارية سوى محاولة تجنب تراكم تلك الفوائض الدولارية لديها، وقد حاولت الصين أن تنوع من محافظها الدولارية بعدم الاقتصار على الاحتفاظ بالسندات الدولارية، ولكن دون نجاح حتى الآن على ما يبدو. وفي زيارته إلى الصين صرح تيموثي جايثنر وزير الخزانة الأمريكي بأن عجز الميزانية الأمريكي يصل حاليا إلى نحو 13 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة، إلا أن جايثنر أعلن أن الولايات المتحدة تخطط إلى تخفيض العجز إلى نحو 3 في المائة، والواقع أن جايثنر لم يكن مقنعا خصوصا أنه لم يوضح من الناحية الحسابية كيف يمكن الوصول إلى تلك المستهدفات، فالوضع الأمريكي في غاية الصعوبة، فلا يمكن رفع معدلات الضرائب في ظل تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وفي ضوء الجمود النسبي للإنفاق العام الأمريكي وتكلفة حربين لا تستطيع الولايات المتحدة أن تفك التزاماتها فيهما، يصبح من الصعب الحديث عن السيطرة على عجز الميزانية. وفي محاولة لتهدئة المخاوف الصينية أشار جايثنر إلى أن الأصول الاستثمارية المالية في الولايات المتحدة آمنة جدا، وأن إدارة أوباما ملتزمة بسياسة الدولار القوي، وهي سياسة لم تثمر حتى هذه اللحظة. الصين أيضا شغوفة حاليا لمعرفة كيفية السيطرة على نمو السيولة في الولايات المتحدة، والآليات التي من خلالها سيتم سحب تلك السيولة مستقبلا من الاقتصاد الأمريكي لكي تتجنب مخاطر التضخم.
وتبذل حاليا جهودا من قبل الصين وروسيا بصورة أساسية لاستبدال الدولار كعملة احتياط دولية بعملة أخرى، وإذا ما نجحت تلك الدول فإن الدولار سينخفض بشكل كبير. فقد وقعت الصين اتفاقيات مع البرازيل وماليزيا بأن تتم تسوية الصفقات التجارية الثنائية بينها من خلال اليوان الصيني أو الجنيه الاسترليني أو اليورو بدلا من الدولار، كذلك وعدت روسيا بأنها ستبدأ عقد صفقاتها التجارية بالروبل والعملات المحلية للدول التي تتاجر معها، كذلك تحاول الصين التخلص جزئيا من احتياطياتها الدولارية من خلال شراء مصانع وأصول عبر دول العالم، فبما أن الولايات المتحدة ترفض أن تبيع أي من صناعاتها عالية التقنية للصين، فإن الصين لا تجد خيارا آخر سوى شراء تلك الأصول خارج الولايات المتحدة في ظل توقعها أن يفقد الدولار قيمته بسرعة في المستقبل.
ولكن السؤال الأساسي هو: هل يستطيع المدخرون بالدولار الاتجاه بمدخراتهم بعيدا عن الدين الأمريكي؟ الإجابة لحسن حظ الولايات المتحدة قد تبدو لا، وتجدر الإشارة إلى أن محافظ البنك المركزي الصيني كان قد اقترح وقف استخدام الدولار كعملة احتياط، واستخدام وحدات حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي كعملة احتياط دولية بدلا من الدولار، وفي رأيي فإن فرص نجاح تلك المحاولات تعد شبه معدومة بسبب عدم وجود بديل جاهز حاليا أو في المستقبل القريب للدولار، وفي مقال لاحق سنحلل الأسباب التي تحول دون نجاح مثل هذا المقترح.
الوضع المالي للولايات المتحدة إذن حرج للغاية، ويدور التساؤل حاليا وبقوة حول ما إذا كانت الحكومة الأمريكية ستجبر على إعلان إفلاسها بعد أن دخلت مديونية الولايات المتحدة الخطوط الحمراء حول المعدلات الآمنة لنسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ليس أمرا مستبعدا أن تفلس إمبراطورية ما، إلا أن التاريخ يخبرنا بأن الإمبراطوريات التي تفلس تفقد قوتها على الصعيد العالمي. لحسن الحظ فإن السيناريو الحالي تكرر في الولايات المتحدة، وربما بصورة أسوأ، في أعقاب أزمة 1929، وخرج الاقتصاد الأمريكي من الأزمة معافى من دون أن تضطر الحكومة الأمريكية إلى إعلان إفلاسها، ومن المؤكد أن الاقتصاد الأمريكي يملك من القوى التي تمكنه من أن يحول دون بلوغ حافة الإفلاس، غير أنه للحيلولة دون ذلك فإن الولايات المتحدة في حاجة إلى مراجعة شاملة لسياسات الإنفاق التي تتبعها حاليا، بما في ذلك إنفاقها العسكري، وإصلاح برامج الرعاية الصحية والاجتماعية، واتباع سياسات تقشفية للسيطرة على العجز المتصاعد في ميزانيتها الفيدرالية، ورفع معدلات الادخار المحلي لتقليل اعتمادها على مدخرات العالم الخارجي، وهي سياسات قد تبدو غريبة على مسامع الفرد الأمريكي، إلا أنها ضرورة أساسية للحيلولة دون لجوء الحكومة الأمريكية إلى إعلان إفلاسها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي