آن أوان حماية مجتمعنا والدفاع عن قيمه
يبدو أن هناك من توهم بأن مرحلة الانفتاح الفكري والإعلامي وتشجيع ثقافة الحوار في مناقشة كل قضايانا الاجتماعية علنا والاختلاف حولها تحت الضوء والنور، تعني إسقاط كل المحاذير وتجاوز كل الضوابط الأخلاقية لمجتمعنا، وأنه أصبح مستباحاً ويمكن ممارسة كل النزوات والشهوات المحرمة داخله، ولن يكون من يفعل ذلك محل محاسبة أو معاقبة على اعتبار أنه يمارس حرية الحياة التي اختارها، وأزعم أن هناك من توهم أيضا بأنه في ظل الفضائيات والشبكة العنكبوتية المفتوحة وجمعيات حقوق الإنسان والحريات المطلقة، سوف يحمي من الفضيلة وحراسها والمدافعين عنها، ويترك يجاهر بمعاصيه ورذائله وسقوطه في أبيار الانحلال الخلقي وحتى الإنساني حين يتفاخر بتصيد الفتيات وكأنهن مجرد كائن بلا كرامة ولا قيمة ولا مشاعر ولا أحاسيس، بل أداة لمتعة عابرة.
أسوق هذه المقدمة العامة تعليقا على واقعة المجاهر بالمعصية والرذيلة على شاشات التلفزة من مدينة جدة، بعد إقامة دعوى قضائية ضده لدى محكمة جدة من قبل ممثلين للمجتمع السعودي بصفة عامة، ومجتمع مدينة جدة تحديدا الذي لوثه ساقط يدعي انتماءه إليه، وفي هذا رسالة واضحة وقاطعة لفئة تواجدت بكل أسف بين ظهرانينا، داخلها الشيطان الرجيم وصوّر لها بأن الحياة مجرد متعة غرائز وشهوات منفلتة من عقالها وغير منضبطة بأخلاق وقيم دينية واجتماعية، وهي فئة موجودة ولا يمكن إنكار وجودها، فلا توجد تلك المدينة الفاضلة ولم يوجد بعد ذلك المجتمع الطاهر من الخطيئة والإثم، وهذه الفئة نرى نماذجها في أسواقنا وأماكننا العامة وهم يشوهون وجه مجتمعنا ويتعدون على قيمه وأخلاقه علنا بأشكال مقززة من تطويل شعور وارتداء ملابس شاذة والإتيان بتصرفات بذيئة وجارحة، ضاربين فيها بكل القيم عرض الحائط.
هذا المجاهر الذي مزق أستار الستر وظهر بالعلن، وأشباهه، هم نتاج تساهلنا وتغاضينا وما نسميه تسامحنا مع ظواهر تركناها تنمو كالطفيليات الضارة في مجتمعنا دون أن نقومها ونهذبها بالتربية الصحيحة، ونعاقب من يتمادى فيها بالضوابط الشرعية، التي تلزمنا كمجتمع مسلم بالنهي عن المنكر والأمر بالمعروف، ولعلها تكون فرصة ومناسبة وحجة دامغة يرد فيها على دعاة الانفراج، وليس الانفتاح، الاجتماعي بالتساهل مع بعض السلوكيات غير المتوافقة مع طبيعة مجتمعنا المسلم باسم محاربة عادات متخلفة وإضفاء عصرنة عليه تارة، وتارة أخرى باسم عدم الحرج والخشية من كشف عيوبنا لمعرفتها بدلا من إنكارها وتغطيتها كالنعامة، إلا أن هدفهم الحقيقي لا هذا ولا ذاك، بل جعل ممارسة سلوكيات لا تتوافق مع ثقافتنا الدينية والاجتماعية أمورا عادية وغير مستنكرة ولا مستغربة ومن ثم غير مرفوضة، ولهذا لم يكن مستغربا مثلا أن يهلل ويصفق بعضهم ويشيد بكل حماسة منقطعة النظير ببعض الأعمال القصصية والروائية، المحسوبة ظلما على الأدب، التي عرضت لحالات شذوذ أخلاقي في مجتمعنا بصورة مبالغ فيها، وكأنها قاعدة وليست استثناء، والاحتفاء بها بصورة واسعة مع أنها كتابات متدنية الجودة الأدبية، وميزتها الوحيدة هي الصراحة الفجة وانعدام الحياء، إن اعتبرت هذه من شروط الجودة الأدبية وهي ليست كذلك، فهناك فرق شاسع ما بين الأدب، وقلة الأدب كما في مثل هذه الكتابات التي شاعت في السنوات الأخيرة، وكل قيمتها هو في مدى إساءتها لمجتمعها.
أجزم بأن هذا الشاذ وأشباهه هم نتاج حالة تركت تنمو بلا رادع ولا وازع من دين أو خلق، وهي مؤشر وجرس إنذار لنا لأخذ المبادرة من جديد لحماية مجتمعنا وأجياله الجديدة القادمة من هجمة شرسة بدأت تتضح معالمها من أجل تغيير جلد ثقافته وأخلاقياته وقيمه ذات الضوابط الشرعية المدعومة بثقافة اجتماعية محافظة بطبعها، واستبدالها بثقافة متحررة من كل قيم وأخلاق تعظم من الشهوات والغرائز المحرمة باسم الحرية والانطلاق في الحياة الواسعة الرحبة بلا قيود ولا حدود بشعار ''عش حياتك''، وهي ثقافة بدأت تفد علينا وتتسلل من خلال فضائيات فاضحة وماجنة، وعبر جماعات وأفراد وفدوا إلينا للعمل لم يجدوا بكل أسف ضوابط وحدودا لما يمكن أن يمارسوه من سلوكيات وتصرفات مما تعودوا عليها في مجتمعاتهم ومما تتعارض مع ضوابط مجتمعنا، وكشفت لنا ذلك جهود هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي يحاربها البعض لغرض في نفسه، ويدعو لها ممن ليس في قلبه مرض بالتوفيق وبإصلاح دعوتها حتى تصبح وسيلة عصرية، في القبض على وافدين، وجلهم شباب يمارسون أعمالا منافية لقيمنا الدينية والأخلاقية، والأكثر أسفا أن بعضهم يجاهر بذلك كما نراهم في الأسواق والمقاهي التي باتت تلفت النظر، وقد آن لنا أن نضع قواعد وضوابط تشترط على المقيم التقيد والالتزام بها لاستمرار بقائه نابعة من قيمنا الدينية والاجتماعية، ومن يخالفها يمنع من البقاء والعودة.
أما الفضائيات فنحن في حاجة إلى جهد عربي شامل لوضع شروط وقواعد لمن يريد استخدام فضائنا الإعلامي، قوامها الالتزام بانضباط أخلاقي فيما تبثه، لا أن يترك مستباحا كما نراه اليوم من بعض هذه الفضائيات القائمة على إثارة الغرائز في برامجها وبثها أغاني ماجنة، صوتا وصورة، وجميعها موجهة للأجيال الجديدة لصرفها عن هموم وقضايا وشجون الأمة الحقيقية، والبرنامج الذي ظهر فيه ذلك المجاهر هو عينة من فضائيات هناك من يمولها ويشجعها على استهداف مجتمعنا السعودي تحديدا، وتحشر قضايانا الاجتماعية في برامجها وكأنها معنية بحلها ومناقشتها، وتركز على الجوانب المظلمة والسيئة والمسيئة منها، وتتلقط شواذها وتشجعهم وتغريهم للظهور والمساهمة فيها بتشويه صورة مجتمعنا من ناحية، ومن ناحية أخرى للتشجيع على الخروج على قيمه وأخلاقياته. بقي القول إن واقعة هذا المجاهر كشفت معدن وأصالة مجتمعنا الذي استهجن ورفض فعلته، ولم يجد من يدافع عنه أو يبرر سلوكه المشين، وهو ما يعكس فهمنا ووعينا للتفريق ما بين التحديث والتطوير والفحش والابتذال.