احتكار ونفوذ .. سطوة وكالات التصنيف الائتماني على الأسواق من أين تأتي؟

احتكار ونفوذ .. سطوة وكالات التصنيف الائتماني على الأسواق من أين تأتي؟
احتكار ونفوذ .. سطوة وكالات التصنيف الائتماني على الأسواق من أين تأتي؟
احتكار ونفوذ .. سطوة وكالات التصنيف الائتماني على الأسواق من أين تأتي؟
احتكار ونفوذ .. سطوة وكالات التصنيف الائتماني على الأسواق من أين تأتي؟

ينظر كثير من الخبراء لوكالات التصنيف الائتماني بحسبانها مقياسا لحرارة الأداء الاقتصادي لدولة أو مؤسسة ما، لكنه مقياس من نظر البعض مثير للجدل أحيانا.
مع هذا لا يزال الواقع الاقتصادي يشير إلى أن ما تعلنه وكالات التصنيف الائتماني بخفض أو رفع التصنيف الائتماني لدولة أو شركة كفيل بالتأثير سلبا أو إيجابا في مكانتها في الأسواق المالية الدولية.
من أين تأتي وكالات التصنيف الائتماني بكل تلك السطوة على الأسواق؟ ولماذا يتركز الاهتمام العالمي بثلاث وكالات فقط؟ لماذا تؤثر تصنيفاتها في اقتصادات الدول والشركات؟ من أين تحصل على إيراداتها وتحقق أرباحها؟ ما قيمة الرسوم التي تتقاضاها؟ والأهم ما مدى إلزامية ما تصل إليه من نتائج اقتصادية عند تقييمها لاقتصادات الدول أو الشركات؟ عشرات هي الأسئلة التي تبحث عن إجابات عندما يتعلق الأمر بالبحث في دهاليز وكالات التصنيف الائتماني.
ربما يكون أحدث مظاهر السطوة التي تتمتع بها وكالات التصنيف الائتماني، ما حدث الجمعة الماضي عندما انتابت المستثمرون حالة من القلق بسبب إعلان وكالة موديز لخدمات المستثمرين خفض توقعاتها لتصنيف حكومة الولايات المتحدة من مستقرة إلى سلبية، مشيرة إلى ارتفاع المخاطر على القوة المالية للولايات المتحدة نتيجة العجز المالي و"استمرار الاستقطاب السياسي داخل الكونجرس الأمريكي، ما يزيد من خطر عدم تمكن الحكومات المتعاقبة من التوصل إلى اتفاق في الآراء بشأن خطة مالية لإبطاء التراجع في القدرة على تحمل الديون".
سطوة وكالات التصنيف الائتماني لم تظهر فقط في القلق الذي ولدته لدى المستثمرين بشأن الاقتصاد الأمريكي، لكن تظهر أكثر في أن تصريحات والي أدييمو نائب وزير الخزانة "نحن لا نتفق مع قرار وكالة موديز بالتحول إلى توقعات سلبية، لا يزال الاقتصاد الأمريكي قويا، وأوراق الخزانة هي الأصول الآمنة والسائلة البارزة في العالم"، لم تفلح في تبديد القلق، على الرغم من أن حديثه تضمن كثيرا من الحقيقة، ولم تنجح نبرة الثقة في حديث المسؤول الأمريكي في هزيمة أو حتى تحييد تأثير قرار وكالة موديز بخفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
من جانبه، يرى جوردن ألكس الاستشاري السابق في مجال التصنيف الائتماني، أن النفوذ الذي تتمتع به وكالات التصنيف الائتماني في الأسواق يعود إلى عاملين هما الحاجة والمصداقية.
وقال لـ"الاقتصادية" إن "التصنيفات الائتمانية تعد ضرورية للمقرضين والشركات المقترضة والكيانات التي تفكر في الاستثمار في أسهم أو سندات الشركات المقترضة، ويعتمد المقرضون على التصنيفات الائتمانية لتقييم الجدارة الائتمانية للشركة، واتخاذ قرارات حاسمة وصائبة بشأن الموافقة على القروض أو رفضها، وبالنسبة للشركات المقترضة تحدد التصنيفات الائتمانية أهليتها للحصول على قروض لدعم المساعي التشغيلية أو التوسعية لديها، علاوة على ذلك يقوم المستثمرون الأفراد والمؤسسات بتحليل شروط التصنيف الائتماني لتقييم المخاطر قبل الاستثمار في أسهم الشركة أو سنداتها".
وأضاف قائلا "ما ذكرته الآن يمثل جانب الطلب بالمفهوم الاقتصادي الشائع، على الجانب الآخر أثبتت التجربة التاريخية أن شركات التصنيف الائتماني تتمتع بدرجة جيدة من المصداقية والدقة في التقييم، وبالتأكيد هناك بعض المآخذ على النتائج التي تتوصل إليها أحيانا، ربما يعود ذلك إلى قصور في المعلومات أو عدم ملاءمة منهج التحليل المستخدم، لكن المصداقية وعدم التلاعب في النتائج هو ما أكسب وكالات التصنيف الائتماني نفوذها وتأثيرها في الأسواق المالية".
وينصب التركيز الأساسي لوكالات التصنيف الائتماني على القدرة على سداد الديون، وهو المعيار الأكثر أهمية بالنسبة للدائنين، ويقوم المحللون الماليون بطرح سيناريوهات مختلفة وحساب احتمالية تحقق كل منها بناء على التدفقات الداخلة أو الخارجة للكيان محل التصنيف.
في المقابل، ذكرت لـ"الاقتصادية" الدكتورة فيونا بارنيت أستاذة الاقتصاد الكلي في جامعة مانشستر، "لم تعد وكالات التصنيف الائتماني خاصة في الأعوام الأخيرة تبني السيناريوهات المحتملة على الأرقام والإحصاءات المتاحة فقط، بل إنها تأخذ في الاعتبار مزيدا من المعايير العالمية مثل إدماج الضغوط الاجتماعية والتحديات السياسية ضمن منهج التحليل، وهذا وسع من دائرة التقييم ومدى دقته، وأكسبها مزيدا من المصداقية في الأسواق".
وأضافت "عندما تقوم إحدى الوكالات بخفض تصنيف كيان ما فإن ذلك يؤدي إلى تفاقم شروط الاقتراض الخاصة به، ونظرا لوجود عدد قليل من المعايير الموضوعية في الأسواق المالية، فإن التصنيف حتى ولو كان إرشاديا فقط سيكون له تأثير قوي".
وتتقاسم سوق وكالات التصنيف الائتماني ثلاث وكالات ائتمان أمريكية، ستاندرد آند بورز وموديز وفيتش، والعام الماضي امتلك "الثلاث الكبار" كما يطلق عليها 95 في المائة من سوق التصنيف الائتماني.
وبينما تبلغ حصة موديز وستاندرد آند بورز نحو 80 في المائة من السوق تصل حصة وكالة فيتش لنحو 15 في المائة، وبالطبع يوجد عديد من الوكالات الأخرى العاملة في هذا المجال، إلا أن الثلاث الكبار تتمتع بخبرة تحول عمليا من ظهور منافس حقيقي لها حتى الآن.
وعلى سبيل المثال، أوصت هيئة الأوراق المالية والأسواق الأوروبية بتفضيل واحدة من الوكالات الـ17 الأخرى المعتمدة لديها، لكن الكيانات العامة الأوروبية التي ترغب في الإقراض لم تتبع أيا من تلك الوكالات، واعتمدت في قراراتها على توصيات "الثلاث الكبار".
بدوره، يرى تيم وارك المحلل المالي في بورصة لندن، أن قبضة الثلاث الكبار على سوق التصنيف الائتماني ستستمر لبعض الوقت وذلك على الرغم من سعي ونجاح بعض الوكالات في توسيع حصتها في الأسواق في الآونة الأخيرة، بحيث يمكن أن نشهد قائمة جديدة تضم "الأربع الكبار".
وأضاف "هناك أكثر من 150 وكالة تصنيف في جميع أنحاء العالم، لكن من أجل الحصول على مصداقية تحتاج الشركات أو المؤسسات أن تحصل على تقييم واحد من الثلاث الكبار، وبالطبع أفضل لها أن تحصل على تقييم الثلاث معا".
وتابع قائلا " تتفق الأغلبية العظمى من الخبراء على أن الثلاث الكبار أسهمت في الأزمة المالية العالمية 2008، عندما أخطأت في تصنيف القروض والرهون العقارية ومنحها تصنيفات مرتفعة، ليكتشف السوق لاحقا أن هذه القروض لا قيمة لها بعد انفجار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة التي تسببت في الأزمة لاحقا".
ويستدرك قائلا في محاولة للحد من سطوة الثلاث الكبار شجعت دول منطقة اليورو الشركات المالية وغيرها من الشركات على إجراء تقييماتها الائتمانية الخاصة بها، أو الاعتماد على وكالات تصنيف أوروبية بدلا من الاعتماد على الثلاث الكبار، لكن تلك الجهود لم تسفر حتى الآن عن نتائج تذكر.
في هذا السياق، أشار الخبير المصرفي إل.دي.فيبوند إلى أن السبب في عدم نجاح منافسي الثلاث الكبار في الإطاحة بها أو تقليص هيمنتها على الأسواق على الرغم من الانتقادات الحادة التي تعرضت لها في أعقاب الأزمة المالية 2008 يعود إلى أن المنافسين الجدد لم يأتوا بجديد في مناهج التقييم.
وأوضح لـ"الاقتصادية" أن مناهج التقييم المتبعة لدى وكالات التصنيف الأوروبي هي ذاتها المتبعة لدى الوكالات الأمريكية الثلاث، وإذا وجدت اختلافات فإنها محدودة للغاية، فوكالة ستاندرد آند بورز تقيس مدى احتمالية تخلف المدين عن السداد، بينما تقيس وكالة موديز المدة التي من المحتمل أن يستمر فيها التخلف عن السداد، أما وكالة فيتش فإنه في الأغلب ما يتم اللجوء إليها عندما تختلف الوكالتان السابقتان بشكل كبير حول الجدارة الائتمانية للديون.
مع هذا، فإنه يؤكد أهمية استمرار المنافسة بين اللاعبين الصغار والثلاث الكبار حتى وإن لم تحقق تغييرا جذريا في سوق التصنيف الائتماني حتى الآن، لأنها في نهاية المطاف تصب في مصلحة المستهلك بطرح بدائل مختلفة أمامه.
وفي الواقع فإن فرض الثلاث الكبار قبضتها على سوق التصنيف الائتماني أمر شديد "الخطورة والحساسية" في آن واحد، إذ تمنحها تلك الوضعية الاحتكارية سطوة ونفوذا على الجميع، وكان عدد من كبار المسؤولين الأوروبيين ومن بينهم وزير الاقتصاد الألماني الأسبق راينر بروديرل قد صرح قبل أكثر من عقد من الزمان عندما هددت الوكالات الثلاث بخفض التصنيف الائتماني لـ15 دولة في الاتحاد الأوروبي، بأن ما يحدث يمكن أن يدخل في إطار مؤامرة أمريكية على الأوروبيين.
وبالفعل سادت في كثير من الأحيان قناعات بأن الشركات الثلاث ولكونها أمريكية، فإنها تستخدم من قبل واشنطن بما يحقق مصالح الولايات المتحدة، لكن مع خفض وكالات التصنيف الائتماني لتصنيف الاقتصاد الأمريكي في عديد من المرات، فإن المرجح بالنسبة لكثيرين أن تلك الوكالات قادرة على إيذاء الجميع.
مع هذا لا يخلو الأمر من مدافعين عن أداء وكالات التصنيف الائتماني، إذ قالت جين بوتينج الباحثة في مجال تقييم أداء الشركات إن "النظرة السلبية من قبل البعض لتلك الوكالات لا يعود إلى ما تصدره من نتائج، وإنما لأنها ترفع صوتها بتلك النتائج محذرة من خطورة الوضع".
وأبرز الانتقادات التي توجه دائما لوكالات التصنيف الائتماني يتعلق بتضارب المصالح، ويكمن جزء من المشكلة في أن وكالات التصنيف يتم تمويلها من قبل الشركات نفسها التي تقوم بتقييمها، فإذا كنت ترغب في الحصول على تصنيف فيجب أن تدفع رسوما مالية للوكالة لتقوم بذلك، وتتحدد الرسوم بناء على حجم الشركة، ونظريا على الأقل يمكن أن يعني ذلك أن تمنح الوكالة العميل التصنيف الذي يريده، وبالطبع تنفي الوكالات هذا، وتؤكد أن ثقة الأسواق في تقييماتها تعني إنها أبعد ما تكون عن كونها ألعوبة في يد عملائها.
من جانبه، ذكر الدكتور أس. آر. جورج أستاذ النظم الاستثمارية في جامعة لندن، أنه "منذ السبعينيات غيرت وكالات التصنيف الائتماني نموذج اعمالها، وكان الدفع يتم لها من قبل المستخدمين النهائيين لتصنيفاتها، وكان هذا يبدو منطقيا، فالبنك المقرض هو الذي يريد التأكد ما إذا كان المقترض قادرا على السداد أم لا؟ والآن تحصل الوكالات على أتعابها من قبل الجهة التي تقوم بتصنيفها، وعدد محدود من التقييمات التي تقوم بها تكون مجانية وهي المتعلقة في الدول الأكثر ثراء باعتبارهم لاعبين لا غنى عنهم".
ويستدرك قائلا "الوكالات متحفظة للغاية في البوح بأسعارها، لكن من المؤكد أنه سيتوقف على حجم المؤسسة موضع التقييم، ونموذج الأعمال الجديد يتضمن إمكانية تضارب المصالح لتجنب خسارة العملاء الذين قد يلجأون لمنافسين أكثر مرونة في تقييمهم، وذلك على الرغم من تأكيد الوكالات وجود فصل كامل بين أقسام المبيعات وأقسام التحليل".
وحول جانب آخر متعلق بالمعلومات التي تحصل عليها الوكالات للقيام بعملية التحليل المالي، أشار الدكتور أس. آر. جورج إلى أنها في أغلب الأحيان تعتمد على البيانات التي تقدمها المؤسسة محل التصنيف، ما يثير شكوكا حول مدى دقة التحليل المالي ذاته.
ولا شك أن قضية تضارب المصالح تعد نقطة ضعف رئيسة في منهجية وكالات التصنيف حتى وإن كان هناك ثقة دولية في تحليلاتها المالية، ففي 2019 تم تغريم وكالة فيتش بما يزيد على خمسة ملايين يورو لعدم امتثالها للتشريعات المتعلقة بمنع تضارب المصالح من خلال تصنيف مجموعة ملاه ليلية كان يمتلكها مدير شركة فيتش ذاته، وبعدها بعامين تم تغريم شركة موديز بنحو 3.7 مليون يورو لأسباب تتعلق أيضا بتضارب المصالح.
وظل الاقتصاد العالمي لقرون يعمل دون الحاجة لوكالات التصنيف الائتماني، وكان هناك فجوة في كيفية مساعدة المستثمرين في تحديد الأوراق المالية التي يستحق أن يستثمر فيها، خاصة إذا كانت تلك الأوراق المالية لشركة جديدة، وكان أول شخص يملأ تلك الفجوة جون مودي مؤسس وكالة موديز للتصنيف الائتماني وأحد رجال الأعمال في وول ستريت، فعندما بلغ 32 عاما في عام 1900 نشر ما يعرف بدليل موديز للأوراق المالية الصناعية والمتنوعة، الذي تضمن خلاصة وافية ومعلومات تفصيلية عن أغلب المؤسسات المالية الموجودة في الولايات المتحدة، بيع دليل موديز خلال أشهر ليضع البداية الأولى لما يعرف بوكالات التصنيف الائتماني.
من ناحيتها، ترى ماريا رجبي أستاذة التاريخ الاقتصادي في جامعة لندن، أن وكالات التصنيف الائتماني نموذج حي للتطور الرأسمالي، وأنه أيا كانت الثغرات التي تكمن في آليات العمل لديها فإن الوقت قد تجاوز إمكانية استغناء النظام الاقتصادي الدولي عنها.
وقالت لـ"الاقتصادية" إنه "حتى ثمانينيات القرن الماضي كانت الشركات الثلاث الكبرى تتخذ بالأساس من الولايات المتحدة مقرا لها، فالطلب على خدماتها كان محدودا ولم يكن مرتفعا، وذلك لأنهم يقومون بتقييم أسواق الديون، في حين كانت الشركات في ذلك الوقت لا تزال تقترض نصف ما تحتاج إليه من أموال من البنوك، وتستثمر في أشياء كان للبنوك معرفة تفصيلية بها وبأسواقها، وكانت البنوك تعرف تلك الشركات أو المؤسسات أو الأسر شديدة الثراء الراغبة في الاقتراض معرفة شخصية، وكان معظم الناس يشترون المنتجات المالية مثل الأسهم والسندات من الشركات أو الحكومات في دولهم بالعملة المحلية، والآن المشهد مختلف، وكالات التصنيف مقرها الرئيس في الولايات المتحدة لكن فروعها منتشرة في جميع دول العالم، فإضافة الصبغة الكونية على النظام الرأسمالي، وتجاوزه الأنشطة الاقتصادية الحدود الوطنية بشكل واسع، يتطلب وجود طرف ثالث محايد إذا جاز التعبير للحكم بمدى قدرة المقترض على الاقتراض".
خلاصة القول، وكالات التصنيف الائتماني باتت أحد أحجار الأساس للنظام المالي العالمي، وجوانب القصور والخلل لديها لن تؤدي إلى الإطاحة بها أو الخلاص منها نظرا لأهميتها للمقرضين، ومن ثم فإن الأجدى الدعوة لعملية إصلاح لجوانب الخلل الموجودة فيها، وفرض مزيد من سلطة المؤسسات الرقابية والتنظيمية عليها، وتعزيز المنافسة داخل سوق التصنيف الائتماني لإضعاف احتكار الثلاث الكبار، وربما يكون الأكثر أهمية في هذا السياق سعى مزيد من الدول إلى تأسيس وكالات التصنيف الائتماني الخاصة بها على أن تعمل وفقا للمعايير الموضوعية والعالمية لتكسب مزيدا من الأرضية في سوق التصنيف الائتماني على أمل تحوله إلى سوق تنافسي حقيقي يوما ما.

الأكثر قراءة