بالعلم وليس بالشعر والفن وحدهما ترقى الأمم

صحيح أن الشعر هو ديوان العرب، وأننا برعنا وأبدعنا شعرا وقصائد ومعلقات قل نظيرها عند أمم أخرى منذ فجر تاريخنا وحتى يومنا هذا الذي بتنا ننتج فيه شاعرا كل ساعة ومطربا كل دقيقة، فما لدينا من شعراء ومستطربين أضعاف ما لدينا من مهندسين وأطباء وإداريين واقتصاديين وعلماء إلى آخر منظومة الفعل العلمي والحقيقي والميداني وليس فقط الصوتي.
كعربي صرف وعروبي لحد النخاع أطرب وأنتشي بسماع قصيدة عصماء تحمل معاني جزلة وتصويرا مبدعا وبلاغة فيها طلاوة اشتهرت بها لغتنا العربية وتميزت، ولكن في هذا الزمن الصعب الذي تعاني فيه الأمة عدة أوجاع من فرقة واختراق وتهديد مباشر وخطير لأمنها وثقافتها وهويتها، وتكالبت فيه علينا الأمم حتى بتنا أشبه ما نكون بالقصعة التي ذكرها رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام، السؤال هو: وماذا بعد؟ ..!!، ماذا تنفعنا قصائد شعر مهما كانت بلاغتها وفصاحتها ومضامينها حماسية أو غزلية أو غير ذلك، في مواجهة تخلفنا وهواننا وتراجعنا؟ ..!!، فقصائد الشعر مهما كانت فريدة ورائعة وتطرب، لا تقدم لنا نظرية علمية جديدة، أو حلولا عملية، بل هي ليست أكثر من فرقعات صوتية تلهب الأكف بالتصفيق وتخدر العقول بنشوة وجدان كاذبة هي ترجمة فعلية لوصف المفكر الراحل عبد الله القصيمي - رحمه الله - بأن العرب "ظاهرة صوتية"، وإن كان هذا الوصف لا ينطبق على أسلافنا حين كانت لهم حضارة وإسهامات بارزة في الإنتاج العلمي الإنساني، وإن نفى ذلك أخيرا مثقف بارز مثل الأستاذ إبراهيم البليهي بما يثير الاستغراب الشديد، إلا أن الظن بأن الراحل القصيمي كان يعني الشعر بمقولته تلك، والذي هو واحد من أهم إنجازاتنا الفكرية والإبداعية، فالشعر العربي منذ تاريخنا الأولى وحتى اليوم هو ما بقي في ذاكرتنا أكثر مما بقي من إنجازات علمية باهرة أخذها منا العالم وطورها وأضاف إليها وأنشأ بها حضارة هي التي تقود البشرية اليوم وتتسير بها، فعندما نسينا تاريخنا العلمي والحضاري، وتمسكنا بتاريخنا الشعري وحده، أصبحنا دراويش هذا العصر، وشاهد ذلك شعر اليوم.
عندما تعاني الأمم الضعف والهوان، وتشعر بأنها تتعرض لهزيمة وانهزام حضاري، تهرب دوما لما يخدرها حتى لا تشعر بالألم والمعاناة، وفي هذا الزمن العربي الرديء والمتردي على كل الأصعدة، توجهنا للأسهل والأبسط وهو الغناء والشعر والتمثيل، فأقمنا المهرجانات الشعرية بجوائزها المليونية، والغنائية الصاخبة الراقصة بينما الأمة من أوجاعها تئن وتشتكي، ويعكس ذلك أنه قبل عامين تقريبا تنادى البعض لعمل "أوبريت" غنائي عربي يشارك فيه مطربون ومطربات من كل بلد عربي موضوعه القدس الشريف، وقيل إن ذلك العمل الفني يراد منه الدفاع عن هوية القدس العربية الإسلامية، وكم هو مثير للعجب بل الألم أن نجند للقدس الطرب والموسيقى، وكأن تحريرها سيتم بكمنجة وعود وصوت غنائي جميل وجملة موسيقية تطريبية ..!!، فهذه صورة من صور الضعف والهوان وتردي الزمان.
لو عدنا للتاريخ ودروس سقوط الأمم وضعفها ومن ثم انهيارها لتصبح مغلوبة لغالبها، لوجدنا أن أبرز وأهم ملامحه هو شيوع الترف الزائد عن الحد، ومنه بلا شك العناية بالشعر والغناء وأضيف إليهما في عصرنا الحالي كرة القدم، فهكذا سقطت الأندلس حينما ركن الحكام والناس إلى حياة الخدر والبذخ والترف، ويحكي لنا تاريخ الأندلس قصة موحية تختصر صعود وسقوط الأندلس، تقول الحكاية إن جاسوسا للفرنجة تسلل إلى الأندلس ليستطلع أحوال المسلمين، فرأى شابا يبكي حرقة لأن سهمه لم يصب الهدف، وحين عاد قال لقومه: إن قوما يبكي شبابهم لعدم إصابة الهدف لا قبل لكم بهم، وبعد سنوات طوال عاد الرجل الجاسوس مرة أخرى فوجد الترف ينخر في حياة المسلمين، وقابل شيخا مسنا يبكي بجوار بئر ماء فسأله عما يبكيه، فرد الشيخ المسن أن خاتم محبوبته سقط في البئر، فعاد جاسوس الفرنجة مسرعاً إلى قومه قائلا لهم: الآن عليكم بالمسلمين.
ما أريد أن أخلص إليه هو أن اهتمامنا الزائد وتركيزنا البالغ والمبالغ فيه على جوانب يغلب عليها الترفيه والتسلية، يقودنا إلى أن ننصرف عن كل ما هو جدي، ننشغل بالقشور دون الثمر، ونجعل محط آمال وتطلعات جيلنا الجديد هو هذه المجالات وليس العلم الذي هو الأساس في تقدم الأمم ورقيها وليس الشعر والفن والكرة وحدها، فالفن والشعر والرياضة جزء مكمل لمنظومة متكاملة نرى فيها شاعرا مبدعا وفنانا مجيدا وأيضا عالما يبتكر ويخترع ويتطور، وكم كان مؤسفا بل ومحزنا وكاشفا لمدى التردي الذي وصلنا إليه ألا يجد عالم سعودي هو الدكتور عادل المقرن المشرف على كرسي أمراض المناعة والحساسية في جامعة الملك سعود وفريقه الطبي الاهتمام والتسليط الإعلامي على اكتشافهم لطريقة جديدة تقود لعلاج مناعي يحد من انتشار الخلايا السرطانية في الثدي والمستقيم والقولون، والأكثر حزنا وأسفا أن صحافتنا نقلت الخبر عن مجلة أمريكية في مكان منزو، بينما تفرغت لمتابعة قضية لاعب كرة شهير مع ناديه إلى حد جعلت صورته كبيرة على صفحتها الأولى بعد انتهاء الأزمة الرياضية الخطيرة مع ناديه..!!، بينما لم تنشر صورة واحدة للدكتور عادل ولم يتابع أحد اكتشافه الطبي البارز.
ما يؤلم ويحز في النفس أننا في الوقت الذي نصرف فيه المال الطائل لإقامة مهرجانات ومنح الشعراء بالملايين، وإغراء الشباب بالظهور في برامج من شاكلة "ستار أكاديمي" لتخريج راقص ومغن، يعقد غيرنا مسابقات اختراعات وإنجازات علمية لشبابهم، وعليكم القياس.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي