هل سيكرر الفيدرالي أخطاءه أمام هبوط الأسواق ؟
كابدت الأسواق العالمية خسائر فادحة أخيرا ما بين 3.0 إلى 5.0 تريليون دولار، مصعوقة من ارتفاع معدل البطالة إلى 4.3 % بنهاية يوليو الماضي (أعلى معدل منذ نوفمبر 2021)، رافعاً احتمالات دخول الاقتصاد الأمريكي تحت مظلة الركود، وضعف قدرته على توليد مزيد من الدخل والوظائف، وعلى الرغم من أن الأهداف التي سعى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى تحقيقها منذ أن بدأ رفعه لأسعار الفائدة منذ منتصف مارس 2022، لكبح جماح التضخم الذي وصل إلى ذروته منتصف 2022 عند 9.1 % (الأعلى منذ ديسمبر 1981)، ونجح في مساعيه تلك مع وصوله بأسعار الفائدة إلى 5.5 % قبل نهاية يوليو 2023، وحافظ على مستوياتها الأعلى منذ يناير 2001 حتى الآن، ما ضغط تدريجياً على التضخم إلى 3.0 % بنهاية يونيو الماضي (التضخم الأساسي 3.3 %)، وتعني أيضاً أنه لا يزال بعيداً عن مستهدفه المحدد عند 2.0 %.
لنزع "المفاجأة" التي علت وجوه الأسواق والمستثمرين أمام هول التراجعات الحادة الأخيرة، ورداً على منتقدي الفيدرالي في تمسكّه برفع الفائدة وعدم خفضها في اجتماعه الأخير، فطالما أكّد في تصريحاته السابقة، أنّ تشدده النقدي يهدف فقط إلى خفض التضخم بأي ثمنٍ كان، وأنّه سيأتي بآثارٍ عكسيةٍ على الاقتصاد بالانكماش، وارتفاع البطالة، وكثير من الضغوط على أسواق الأصول، ويأمل حدوث كل ذلك ضمن هبوطٍ ناعمٍ رغم أنه لا يضمن ذلك.
يؤكّد التاريخ أنّ تخلّي الفيدرالي عن سياسته النقدية المتشددة كما تطالبه الأسواق الآن، قبل موعد اجتماعه المقبل في 18 سبتمبر 2024، وقيامه بأي خفض للفائدة في الوقت الراهن تجانساً مع التداعيات المتدهورة الأخيرة للأسواق، سيأتي بنتائج عكسية وخيمة على الأسواق المراد إنقاذها، خاصةً في ظل عدم الوصول بعد بالتضخم إلى مستهدفه النهائي، وتوقع أن يعود مجدداً للتصاعد، ويدعم توقعاته في اتجاه الصعود ارتفاع حدة الاضطرابات الجيوسياسية عالمياً، وفي منطقة الشرق الأوسط تحديداً، إضافةً إلى اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
والتأكيد هنا على أن هذه المعطيات وغيرها من العوامل غير المستقرة سياسياً واقتصادياً وتجارياً على المستوى العالمي، من شأنها في خلاصة تحركاتها غير المواتية أن تدفع بارتفاع التضخم، ودخول الاقتصاد العالمي في "ركودٍ تضخمي" سيكون بكل تأكيدٍ أشد وأعتى مما يواجهه في الوقت الراهن على الرغم من صعوباته، وستزداد ضغوطه بصورةٍ أكبر مع ارتفاع حالات تعثّر الشركات والأُسر عن سداد ديونها لمصلحة الممولين، دعْ عنك إفلاسها الذي وصل في عديدٍ من البلدان إلى مستوياتٍ مقاربة لتلك التي وصلت إليها إبّان الأزمة المالية العالمية 2008، ودون الخوض في آثار تخلّف عديدٍ من حكومات الدول عن سداد الفوائد على ديونها السيادية (قدّرها صندوق النقد الدولي بنحو 102 تريليون دولار بنهاية 2024).
نعم، الاقتصاد العالمي يمرُّ في الوقت الراهن بمنعطفاتٍ بالغة الوعورة، لا يمكن حصرها في قائمةٍ ثابتة، كونها سرعان ما تتغير وتتفاقم فترةً بعد فترة، وهو ما يضاعف كثيراً من التحديات على متخذي السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية، دعْ عنك بقية المجالات السياسية والعسكرية وغيرها، وسيكون مفيداً أن يتعلّم الجميع من التجارب السابقة، خاصةً بعد الأزمة المالية العالمية 2008، التي ضمّت قراراتٍ وردود فعلٍ فاشلة جداً من الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، كان من أخطرها الإفراط في سياسات التيسير الكمّي وخفض الفائدة طوال فترة ما بعد 2008، وأنّ الجزء الأكبر من الورطة الكبرى التي يواجهها الاقتصاد العالمي تولّد في حقيقته من التهور الأمريكي على طريق طباعة الدولارات دون قيدٍ أو شرط.