الطلب وليس التضخم ما يجب أن تركز عليه البنوك المركزية

على مدى العاميين الماضيين كان الشغل الشاغل للبنوك المركزية منصب نحو التصدي والسيطرة على التضخم الجامح المتأثر بالأزمة الروسية الأوكرانية وما تبعها من صدمات في أسعار الطاقة والغذاء، لجأت البنوك إلى استخدام أدواتها التقليدية ورفعت أسعار الفائدة بمستويات كبيرة، الأمر الذي أتى بثماره، ونجحت في تحجيم التضخم وخفضه قريبًا إلى المستويات المستهدفة. لكن مع استمرار الفائدة عند مستويات مرتفعة وفي ظل وضع عالمي مضطرب تسيطر عليه التوترات الجيوسياسية فيبدو أن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى تغيير المسار وتوجيه الاهتمام نحو استعادة زخم النمو الاقتصادي وتشجيع مستويات الإنفاق الاستهلاكي لتجنيب الاقتصاد العالمي حالة ركود سيكون الخروج منها صعبًا للغاية.

من السلع الاستهلاكية إلى الرهن العقاري كلها قطاعات تترك أسعار الفائدة المرتفعة تأثيرها فيها، فتكاليف الاقتراض الباهظة التي يكون المستهلك مجبر على دفعها إلى البنوك لاقتناء تلك السلع تدفع إلى التخلي أو انخفاض مستويات الطلب على كثير منها، الأمر الذي ينعكس سلبًا على الشركات التي تلجأ للتغلب على الطلب المنخفض إلى تقليص مستويات الإنتاج وتسريح العمالة. ومع عدم إقبال البنوك المركزية على المضي قدمًا في اتخاذ إجراءات سريعة لمعالجة الطلب الضعيف وتشجيع الإنتاج فإن الاقتصاد قد ينزلق في حالة ركود.

[1]وبرصد المؤشرات المختلفة يتضح المأزق الواقع فيه الاقتصاد العالمي. البداية من البطالة، حيث تشهد كبرى الاقتصادات ارتفاعًا ملحوظًا في مستويات البطالة. في الولايات المتحدة وصلت البطالة في يوليو 2024 إلى 4.3 % وهو أعلى معدل منذ أكتوبر 2021، فيما ارتفع المعدل في منطقة اليورو خلال يونيو من العام نفسه إلى 6.5 %. الارتفاع في معدل البطالة يأتي كنتيجة للانكماش الذي تتعرض له الأنشطة الإنتاجية مع تباطؤ الطلب وتكاليف الاقتراض المرتفعة، [2]في الولايات المتحدة شهد الإنتاج الصناعي خلال عام كامل (يونيو 2023-مايو 2024) انكماشًا خلال 9 أشهر كاملة مقابل نمو ضعيف في 3 أشهر، وقد سجل الناتج الصناعي نموًا بـ1.1 % خلال مايو 2024 مقابل انكماش بنحو 1 % في مارس. في منطقة اليورو واصل الإنتاج الصناعي في مايو 2024 انكماشه للشهر الخامس على التوالي مسجلًا تراجع بـ3.3 %.

حالة الشك التي تعيشها كبرى الاقتصادات بسبب التشديد النقدي يستدعي سرعة التدخل من السلطات لاحتواء الأزمة قبل توسعها، فالبنوك المركزية في الدول المتقدمة وعلى رأسها الفيدرالي الأمريكي مطالبة بخفض الفائدة قبل نهاية العام على غرار ما قام به البنك المركزي الأوروبي وبنك إنجلترا. وذلك بعد وصول التضخم لمستويات تقترب من المستهدف البالغ 2 %، بجانب حالة الانكماش التي يعيشها الاقتصاد في ظل تراجع الإنفاق الاستهلاكي الذي يشكل الجزء الأهم من تلك الاقتصادات. إضافة إلى التوترات العالمية المشتعلة سواء كانت توترات جيوسياسية مع استمرار الأزمة الروسية الأوكرانية وتصاعد المواجهات في منطقة الشرق الأوسط، أو توترات تجارية مندلعة بين الولايات المتحدة وحلفائها الغريبين من جهة والصين من جهة أخرى، الأمر الذي يهدد تدفقات التجارة العالمية.

تحرك الفاعلين في الاقتصاد يجب ألا يتوقف عند البنوك المركزية. لكنه يجب أن يمتد إلى السلطات المالية التي يجب أن يكون لها دور في تنشيط الاقتصاد ودعم الطلب، وذلك عبر استخدام سياساتها مثل الضرائب والإنفاق الحكومي. فبعد الفترة التي قلصت فيها الحكومات إنفاقها للسيطرة على التضخم، يجب أن ينصب التركيز في الوقت الحالي على رفع مستويات الإنفاق الحكومي سواء لدعم الأفراد مثل رفع مستويات الأجور أو استنئاف الإنفاق على المشاريع. إضافة إلى ضرورة اتخاذ خطوات مدروسة في جانب الضرائب مثل رفع الحد الأدنى على ضرائب الدخل أو تقليص ضرائب القيمة المضافة على السلع والخدمات، ما يسهم في تنشيط الإنفاق واستعادة الاقتصاد عافيته.

ختامًا فإن تركيز العالم يجب أن ينصب في المرحلة المقبلة على تنشيط الاقتصاد ودعم الإنتاج والاستهلاك مع ضرورة رفع شعار انتهاء مرحلة محاربة التضخم. وقد يدفع مزيد من التأخير في اتخاذ الإجراءات التي تساعد على التنشيط في إصابة الاقتصاد العالمي بمزيد من الصدمات، التي ستكون تكلفة احتوائها والسيطرة عليها مرتفعة وذلك في ظل وضع عالمي مرتبك على جميع الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي