نحو نظام عالمي خامس

الآن، أكملت مؤسستا بريتون وودز -صندوق النقد الدولي والبنك الدولي- عامهما الـ80. لكنهما تعانيان نقص الموارد وضعف الدعم من قِبَل الحكومات الوطنية أكثر من أي وقت مضى في تاريخهما. ولعل محنتهما تشكل الإشارة الأكثر وضوحا إلى أن التعددية الاقتصادية والمالية تتفتت جنبا إلى جنب مع الاقتصاد العالمي. الأسوأ من ذلك أن هذا التفتت يأتي في وقت يتسم بتصاعد التوترات الدولية، وتفاقم الهشاشة المالية، وتعثر النمو، وارتفاع معدلات الفقر، وتراكم فواتير إعادة البناء في غزة ولبنان وأوكرانيا وأماكن أخرى.

يقود كل من المؤسستين أفراد يدركون الحاجة الملحة إلى الإصلاح لتلبية تحديات اليوم. لكن كلا منهما تفتقر رغم ذلك إلى الدعم الكافي من السادة السياسيين: البلدان صاحبة الأسهم الأكبر التي تشكل أصواتها أهمية حاسمة للإصلاح. وللتغلب على مشكلات التنسيق الدولي الطويلة الأمد التي قوضت جهود الإصلاح، فإننا في احتياج إلى مجموعة العشرين المتجددة لتتولي زمام المبادرة. ومع تولي البرازيل رئاستها الحالية للمجموعة، فإنها في وضع يسمح لها بتحقيق تقدم كبير.

بطبيعة الحال، تشكل القوة المالية مقياسا واحدا فقط من مقاييس فاعلية مؤسساتنا متعددة الجنسيات، لكنه مقياس مهم نظرا لطبيعة العالَـم الذي نعيش فيه. تشكل الموارد المتاحة لصندوق النقد الدولي أقل من 1% (0.85% على وجه التحديد) من الاقتصاد العالمي. مع ذلك، باعتباره الملاذ الأخير للإقراض وشبكة الأمان المالي للعالم، من المتوقع أن يتعامل الصندوق مع مشكلات 191 دولة عضوا، فضلا عن الانضمام إلى الاستجابة العالمية للقضايا "غير التقليدية" و"الجديدة" مثل تغير المناخ، والفوارق بين الجنسين، وفجوات التفاوت.

يتناقض مثل هذا النقص في التمويل مع نوايا مؤسسي صندوق النقد الدولي، بقيادة المملكة المتحدة والولايات المتحدة. عند إنشائه، كان الصندوق قادرا على الاستفادة من موارد تعادل نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي للمساعدة في معالجة المشكلات النقدية وميزان المدفوعات في 44 دولة فقط. ومنذ ذلك الحين، تضاعف عدد أعضاء صندوق النقد الدولي إلى 4 أمثاله، لكن موارده انخفضت بأكثر من الثلثين نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي. وينعكس هذا التآكل في تراجع ثقل الصندوق العالمي وفقدانه القدرة على حل قضايا الدول الصعبة.

لنتأمل هنا الأمثلة التالية. قبل 4 عقود من الزمن، في عملية إعادة هيكلة ديون المكسيك، وعد صندوق النقد الدولي بثلث ما تحتاج إليه المكسيك، على أمل أن يسهم الدائنون التجاريون بالباقي. وقد سمحت له هذه القدرة المالية آنذاك بالضغط على القطاع الخاص لقبول حل ينطوي على التنازل عن بعض مطالبات الدائنين التعاقدية على المكسيك من أجل تحسين توقعات الجدوى المالية.

على النقيض من ذلك، بعد تخلف زامبيا عن سداد ديونها في 2020، زودها صندوق النقد الدولي بأقل من 10% من احتياجاتها التمويلية. وعلى الرغم من هذا الدعم، كافحت زامبيا على مدى 4 سنوات من المفاوضات مع الدائنين لاستكمال اتفاقيات إعادة الهيكلة. وفي حين يعكس جزء من التحدي تكوين الدائنين من القطاعين الخاص والعام المتغير، فإن قدرا كبيرا منه ينبع أيضا من تضاؤل فاعلية نهج "الجزرة والعصا" الذي ينتهجه الصندوق.

هذا ليس تحديا بسيطا لمؤسسة تضطلع أيضا بأدوار حاسمة في المراقبة والمساعدة الفنية، وتعمل كمرساة لشبكة الأمان المالي الدولية (إلى جانب خطوط المقايضة الثنائية الأكثر تركيزا وترتيبات التجميع الإقليمية المخصصة). وكما ذكرنا بالتفصيل في كتاب أزمة دائمة (الذي شارَك في تأليفه مايكل سبنس وريد ليدو)، فإن الأمر لا يخلو من أسباب تدعو إلى القلق من أن الصدمات من ذلك النوع نشهده (من كوفيد-19 إلى الحرب في أوكرانيا وغزة) ستصبح أكثر تواترا وعنفا في السنوات المقبلة، وخاصة بسبب تحدي المناخ. لقد أثبت عدم كفاية شبكات الأمان المزعج اليوم، وخاصة بالنسبة للدول والشرائح الأكثر ضعفا من المجتمع، أنه مصدر إضافي للهشاشة وعدم الاستقرار.
على الرغم من هذه التحديات المتصاعدة، تظل موارد صندوق النقد الدولي أقل من المستويات التاريخية، وقد فشلت مراجعة الحصص الأخيرة في إحداث زيادة صافية في قدرته على الإقراض.

في الواقع، خلال الفترة من مارس2020 إلى مارس 2023، تعهد صندوق النقد الدولي بتقديم 191 مليار دولار (لكنه صرف أقل من 75 مليار دولار) من قاعدة موارده التي تعادل قيمتها تريليون دولار.

خاص بـ"الاقتصادية"
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2024

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي