مبادرة مستقبل الاستثمار .. تيار يستقطب محركات الاقتصاد العالمي ببصمة تريليونية
أغلق ريتشارد أتياس، زجاج نافذته، تفاديا للهواء البارد القادم من جبال الألب القريبة، وبعد أن شرب قهوته الساخنة جلس في غرفته الفندقية، ليكتب ملاحظاته عن سوء تنظيم مؤتمر دافوس للاقتصاد العالمي، في 5 صفحات امتلأت كلها بالملاحظات والانتقادات، قدمها آنذاك إلى كلاوس شواب رئيس المؤتمر ضمن توصية مفادها أن الحدث الاقتصادي الأبرز عالميًا يحتاج من يعيده إلى الحياة مرة أخرى.
تلك الملاحظات التي كتبها ريتشارد في يناير 1995، لم تغب عنه وهو ينتقل من ثلوج سويسرا إلى أبراج الرياض الشاهقة، حين شارك في تأسيس مبادرة مستقبل الاستثمار التي أصبح مديرها التنفيذي وعضو مجلس إدارتها، ورأى كيف تحولت إلى أهم منظمة اقتصادية عالمية، ولا سيما بعد تلويح ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالهاتفين القديم والجديد في 2017، حينما تحدث بشكل مختصر عن الفرق بين المدن الحالية ومشروع نيوم التي افتتح أخيرا جزيرة سندالة.
غدا تشهد الرياض النسخة الـ8 من مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار في مركز الملك عبد العزيز الدولي للمؤتمرات تحت شعار "أفق لا متناهِ.. الاستثمار اليوم لصياغة الغد"، إذ يتوقع مشاركة 5 آلاف ضيف و500 متحدث يتناقشون في 200 جلسة، بموضوعات أبرزها دور إفريقيا في الاقتصاد العالمي، وتعزيز دور المرأة في المناصب القيادية، ناهيك عن الصفقات المتوقع أن تصل قيمتها إلى 28 مليار دولار.
تعود جذور هذا النجاح الذي تؤكده ضخامة الأرقام ورغبة الآلاف في الحضور، إلى 2015 حين تلقى ريتشارد اتصالا هاتفيا من ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة، إذ طلب منه الأخير التفكير في إقامة مؤتمرات لتعزيز الاستثمار بالرياض، وبوصف "أتياس" أحد المنظمين الكِبار لمؤتمر دافوس من 1995 حتى 2008، بجانب مؤتمرات عالمية أخرى، فكر يومها في بعض المقترحات التي عرضها مباشرة على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أول لقاء معه في 2016.
يقول "أتياس" عن تلك اللحظة "كنت أرى لأول مرة شاب ذكي للغاية ويفكر أسرع 10 مرات منك وصاحب رؤية ويفعل ما يقول، والأهم إنه إنساني في المقام الأول"، ولهذا لم يتعجب ريتشارد من تطوير ولي العهد للمقترحات حتى جعلها رؤية متكاملة أسفرت في النهاية عن انطلاق النسخة الأولى من المبادرة في أكتوبر 2017.
الهدف هو تشجيع الاستثمار على فعل الخير والتأثير في الإنسانية، والركائز الأساسية هي التعليم والرعاية الصحية والاستدامة والذكاء الاصطناعي والروبوتات، هكذا حددت المبادرة منذ اللحظة الأولى أهدافها، وعملت على تحقيقها، فقدّمت في نسختها الثانية 2018 الروبوت صوفيا، التي حصلت على الجنسية السعودية.
وكانت الرسالة التي قرأها العالم من وراء تلك الخطوة هي أن السعودية جادة في مجال الذكاء الاصطناعي والروبوتات، وتؤمن به وستكون من روّاده، ناهيك أن أول روبوت بشري في تاريخ العالم سعودي، وفي النسخة الـ3، استمر النجاح الذي بدأ في لفت الأنظار.
بعد أول 3 نسخ، حان وقت التطوير، فتحوّلت المبادرة إلى مؤسسة غير ربحية بمرسوم ملكي في 2019، ما أتاح لها عقد شراكات إستراتيجية مع كبرى المؤسسات المالية في العالم مثل: بنك إتش إس بي سي، وبنك الكويت الوطني، ومجموعة السعودية وغيرهم، وحدث ذلك بالتزامن مع جائحة كورونا، فأصرّت المؤسسة على عقد نسختها الـ4 حضوريًا باشتراطات الصحة العالمية، وكان القصد أن تُرسل الرياض رسالة تفاؤل في وقت لزم الجميع منازلهم خوفًا من كوفيد 19.
لكن الأهم في تلك النسخة، أنها شهدت أول تطبيق للإستراتيجية الجديدة للمؤسسة، والتي عبّر عنها ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان بقوله: "يجب أن تكون مؤسسة مستقبل الاستثمار، هي المكان الذي يأتي إليه المستثمرون لفهم أين يضعون أموالهم، من حيث الجغرافيا، وفي أي قطاع، هذه هي القيمة التي نقدمها"، وهذا ما تحقق حين قرر رجل أعمال بحجم ديفيد روبنشتاين، الرئيس التنفيذي السابق لمجموعة كارلايل، الاستثمار في الرياضة بعد حضوره جلسات المؤتمر الذي أظهر الفرص الواعدة في هذا القطاع.
خلال النسخ الـ3 الماضية، لم تعد مؤسسة مستقبل الاستثمار مجرد مبادرة تخص الشرق الأوسط فقط، بل صارت دولية، إذ بات لديها اجتماع عالمي تحت اسم "قمة مبادرة الاستثمار"، يتم تنظيمه بشكل دوري في الخارج مثلما حدث في أميركا والصين والبرازيل، ويستهدف هذا الاجتماع من لم يستطيعوا المجيء إلى الرياض في الاجتماع السنوي الأساسي للمبادرة.
وبفضل التواجد الإقليمي والعالمي، وصل شركاء المؤسسة إلى 45 شريك إستراتيجي من أكبر المؤسسات الاقتصادية والمالية في العالم، كما أضحت المؤسسة أشمل، فصار لديها منح دراسية، وبرامج تمويلية، بجانب الدراسات التي تقوم بها، وقراءة كل ما يخص عالم المال والأعمال، لإظهار الفرص المتاحة والقطاعات الناشئة، أما بالنسبة للصفقات، فأسهمت "مستقبل الاستثمار" في توقيع عقود وصلت قيمتها 120 مليار دولار خلال الـ7 سنوات الماضية.
واستكمالًا للتطوير، تحوّلت مؤسسة مستقبل الاستثمار إلى منظمة هذا العام، واشترك فيها 1200 عضو، وقيمة الاشتراك 15 ألف دولار، وسيتم الاكتفاء بـ2000 عضو فقط، أما سبب تلك الخطوة، فجاءت بناءً على أن مستقبل الاستثمار صارت تمثّل تيار عالمي، يرى أن التأثير في الإنسانية يكون من خلال العمل وتحسين جودة حياة الناس، وهذا ما سيتم تعزيزه خلال النسخة الجديدة التي تستضيف نحو 5 آلاف شخص من كبار التنفيذين ورجال المال والأعمال في العالم.
ذلك ليس الإنجاز الأول، ففي النسخة الماضية تجمّع رجال أعمال تخطت ثروتهم 11 تريليون دولار، ليستفيدوا من "مستقبل الاستثمار" الذي أصبح كما وعد ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان "مكان الحالمين والفاعلين"، أما ريتشارد أتياس، فستكون إحدى مهماته خلال الأيام المقبلة، التأكيد أن هذا المؤتمر ليس "دافوس الصحراء" كما يحب أن يسميه رجال الإعلام والصحافية، وذلك لسببين، الأول: أن الرياض ليست صحراء، بل إحدى أكثر مدن العالم تطورًا، والثاني: أن "مستقبل الاستثمار" بما وصل إليه، فاق مؤتمر دافوس بكثير وأصبح رقم واحد في عالم المال والأعمال.