الحرف اليدوية السعودية 2025 .. إبداع ثقافي بملايين الدولارات
في منزل جازاني تغربل إحدى السيدات الطمي لتصفيته من أي شوائب ثم تضعه في أحواض مخصصة ليجف، وعند درجة جفاف معينة شرعت في تشكيله عبر قوالب مختلفة، ورغم أن الخطوات تبدو للمشاهد بسيطة لكنها تحتاج إلى حِرفية وتمرس كبير، حتى تعتاد الأصابع على اللمسات الدقيقة والذوق العالي الذي يحول الطمي إلى تحف فنية من الفخار الذي باتت تشتهر به منطقة جازان كموطن أصيل لهذا الفن.
تشتهر الأحساء بحياكة البشوت، وتُعرف العلا بنسيج السدو، وتنفرد الرياض بالمنتجات الخوصية، ليشكلوا في النهاية سوق سعودية كبيرة للحرف اليدوية من المتوقع أن تصل أرباحه إلى 1.3 مليار دولار في 2028.
توضح دراسة أعدتها اللجنة النسائية للتنمية المجتمعية بالرياض في 2022، أن الحرف اليدوية التي توارثها الأبناء على مدى عقود، ورفضوا التفريط في إرث الأجداد الذي بات هوية ثقافية ورمز حضاري لكل دولة، وكلما تعددت الحرف كلما كان دليل على الثراء الفني والتاريخي للمجتمع، خاصة أن كل حرفة هي انعكاس للبيئة التي نشأت فيها والطبيعة التي تحاوطها، وهو ما يظهر في السعودية التي تتصدر منطقة الخليج في هذا القطاع إذ بلغ عدد الحرفيين المسجلين رسميًا في السعودية 5 آلاف حرفي وحرفية.
اقتصاديا شهدت سوق الحرف اليدوية العالمية ازدهارا لافتا خلال السنوات الماضية إذ بلغ حجمه 740 مليار دولار في 2024 مع توقعات بأن يصل إلى 983 دولارا في 2030 بمعدل نمو سنوي نسبته 4.9%، وأرجعت اليونسكو هذه الطفرة لعدة أسباب أبرزها: أن المنتجات اليدوية صديقة للبيئة وهو معيار رئيسي عند كثير من المستهلكين، إضافة إلى توسيع نطاق وصول الحرفيين إلى الأسواق العالمية من خلال الإنترنت كما أسهم في ذلك زيادة الأحداث والمهرجانات الثقافية.
تلك الحقائق كانت حاضرة أمام مجلس الوزراء السعودي الذي وافق على تسمية 2025 بـ"عام الحرف اليدوية" للاحتفاء بقيمتها الفريدة في الثقافة السعودية من ناحية، ومن ناحية أخرى لتنمية هذا القطاع وإحداث طفرة تدفع به إلى مسار العالمية.
كما خططت وزارة الثقافة التي أطلقت المبادرة، وبحسب تصريحات الأمير بدر بن فرحان وزير الثقافة، سيشهد العام الجاري دعما وتعزيزا كبيرا، لتمكين الحرفيين والحرفيات السعوديين من إبراز إبداعاتهم في الأحداث والفعاليات الداخلية والخارجية وزيادة مستوى مساهمتها في الاقتصاد المحلي، إضافة إلى شركاء فاعلين في هذا القطاع.
وتأتي مبادرة "عام الحرف اليدوية" كامتداد لما حدث خلال السنوات الماضية وتحديدًا منذ 2018 حين أسست الهيئة السعودية للسياحة آنذاك "الشركة السعودية للحرف والصناعات اليدوية" واستهدفت الحفاظ على تراث الحرف والصناعات الفلكلورية الوطنية وصقل العاملين ومساعدتهم، سواء من خلال تزويدهم بالأدوات والمواد الأولية أو ببرامج التدريب ومراقبة الجودة وصولًا إلى تسويق منتجاتهم عبر المعارض المحلية والعالمية، كما مولت نحو 50 مشروعا بقيمة تجاوزت الـ66 مليون ريال بحسب بيانات البرنامج الوطني للحرف والصناعات اليدوية "بارع".
بالتزامن مع ذلك قدمت السعودية يد العون للحرفيين من خلال إبراز منتجاتهم في المعارض والمهرجانات الثقافية مثلما حدث في معرض الرياض الدولي للكتاب 2023 إذ تم تخصيص جزءا من المعرض للمشغولات والمنتجات اليدوية وتمكن من جذب الزوار وإحداث انتعاشة اقتصادية للمنتجين، وفي العام نفسه أطلقت هيئة التراث النسخة الأولى من الأسبوع الدولي للحرف اليدوية "بنان" الذي يشارك فيه دول من مختلف أنحاء العالم بحرفهم اليدوية ليصبح المهرجان معرضا لمنتجات تجسد حضارات وثقافات مختلفة، وفي نسخته الثانية التي أقيمت نوفمبر الماضي شارك فيه 500 حرفي من 25 دولة ليثبت أنه المهرجان الأهم في هذا القطاع.
جهود السعودية أثمرت في النهاية إذ بلغت أرباح الحرف اليدوية 660 مليون دولار سنويا، وبحسب هيئة التراث فإن كثيرا من الأسر والعائلات تعد الحرف اليدوية مصدر رزقها الوحيد، كما وصلت نسبة الخامات المحلية 20% ويتم استيراد 80% من الخارج وهو ما تحاول الهيئة تخفيضه تدريجيا خلال السنوات المقبلة، أما عن أشهر الحرف اليدوية التي تلقى رواجا في السعودية فيأتي في الصدارة حياكة البشوت والخزف ثم الفخار وأعمال الحدادة والنجارة.
الأثر الاقتصادي للحرف اليدوية لم يتوقف عند هذا الحد، فهناك تأثير غير مباشر أيضًا إذ تشير إحصاءات اليونسكو أن الفلكلور والتراث الحضاري لأي دولة يجسد عامل جذب كبير في السياحة، وهناك 10% من السائحين حول العالم يسافرون فقط من أجل التعرف على المهن التراثية لكل البلاد، بجانب أن ازدهار الحرف اليدوية في أي دولة يسهم في تعزيز قوتها الناعمة وترسيخ هويتها وهو أمر تنفق دول مليارات الدولارات سنويا من أجل تحقيقه.
وعلى غرار عام القهوة وعام الإبل، سرعان ما أعلن عام الحرف اليدوية عن نفسه بإطلاق المعهد الملكي للفنون التقليدية مبادرة "مجتمع ورث" التي تستهدف سلسلة من اللقاءات والحوارات مع شخصيات بارزة في هذا المجال، بجانب ورش عملية وريادية لدمج الأصالة مع التكنولوجيا الحديثة، وإذا كان هذا يتعلق بالمهتمين وأصحاب الحرف، ففي حائل سيجد الزوار كل ما يريدونه بعد أن دشن الأمير عبدالعزيز بن سعد مهرجان "حرفة" مع مطلع العام الجديد ومقره قصر القشلة الأثري، الذي يعد أكبر مبنى طينيا قائما في الشرق الأوسط ليكون بمثابة ضربة الافتتاح ليشهد الجمهور على تجارب فريدة مثل: صنع الحصير وتحف الخزف، أما النساء ففرصتهن أكبر لمشاهدة تحويل الخيوط إلى الثياب التراثية بألوانها الزاهية.