مجموعة العشرين .. لا للوعود الجوفاء

إن الحديث عن ''استراتيجيات الخروج'' سيكون على رأس جدول الأعمال حين يجتمع رؤساء بلدان مجموعة العشرين في بيتسبرج بعد بضعة أيام من الآن. وسيَعِدنا هؤلاء الزعماء بعكس اتجاه التوسع النقدي والمالي الذي استفحل طيلة العامين الماضيين، وبتنفيذ هذه المهمة في الوقت المناسب وليس قبل الأوان أو بعد فوات الأوان، وبالتنسيق التام بين الأطراف المعنية كافة.
هذه هي الوعود التي ينتظرها الناس، ولكن ماذا قد تعني مثل هذه الوعود؟
علينا أن نتأمل أولاً هدف عكس التوسع النقدي، وهو أمر ضروري لتجنب موجة من التضخم حين يبدأ الطلب الكلي في العودة إلى مستواه الطبيعي. ولكن من المهم أيضاً ألا يتم هذا قبل الأوان حتى لا يختنق انتعاش اليوم الوليد الذي ما زال هشاً للغاية.
بيد أن الوعود التي يبذلها رؤساء الحكومات لا تعني الكثير، وذلك نظراً لاستقلال البنوك المركزية عن سيطرة الحكومات في كل البلدان المهمة. وهذا يعني أن بِن بيرنانكي رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة، وميرفين كنج رئيس بنك إنجلترا، وجان كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي، سيقرر كل منهما متى وكيف يبدأ في عكس اتجاه سياسته النقدية التوسعية. أي أن بيرنانكي لا يتلقى الأوامر من رئيس الولايات المتحدة، وكنج لا يتلقى الأوامر من رئيس الوزراء البريطاني (وليس من الواضح حتى من قد يدعي أنه الشخص الذي يوجه الأوامر إلى تريشيه).
لذا فإن الوعود السياسية التي ستبذل في بيتسبرج حول السياسة النقدية ليست في الواقع أكثر من تصريحات نابعة عن ثقة الحكومات بقدرة سلطاتها النقدية على التصرف على النحو السليم.
وهذا يشكل تحدياً من نوع خاص لبيرنانكي. فرغم أن بنك الاحتياطي الفيدرالي مستقل من الناحية الفنية وليس مسؤولاً أمام رئيس الولايات المتحدة، إلا أنه يشكل مؤسسة من إبداع كونجرس الولايات المتحدة، وعلى هذا فهو مسؤول أمام الكونجرس. وبسبب الآثار المتخلفة عن السياسة النقدية والحاجة إلى إدارة التوقعات، فإن إسراع بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى إحكام السياسة النقدية في وقت مبكر سيكون تصرفاً مناسباً. ولكن معدلات البطالة قد ترتفع إلى أكثر من 9 في المائة ـ بل وربما أكثر من 10 في المائة ـ حين يبدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في إحكام السياسة النقدية. وإن كان الأمر كذلك فهل لنا أن نتوقع حقاً ألا يعترض الكونجرس؟
الواقع أن الكونجرس قد يأمر بنك الاحتياطي الفيدرالي بالانتظار إلى أن تظهر علامات واضحة تدل على التضخم وإلى أن تنخفض معدلات البطالة إلى حد كبير. ولأن الكونجرس يحدد السلطات الرقابية والتنظيمية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي ويوافق على تعيين محافظيه السبعة، فلابد أن ينصت إليه بيرنانكي بكل عناية ـ الأمر الذي يزيد من خطر تأخر إحكام السياسة النقدية وارتفاع مستويات التضخم. إن عكس اتجاه العجز المالي المتزايد يشكل أيضاً أهمية حيوية بالنسبة لصحة الاقتصاد العالمي. ورغم أن الحوافز المالية التي تم طرحها أثناء العامين الماضيين كانت مفيدة في تحقيق الارتفاع الحالي في النشاط الاقتصادي، فإن مسار العجز في المستقبل قد يلحق ضرراً كبيراً بالنمو على الأمد البعيد.
في الولايات المتحدة جاءت تقديرات مكتب الميزانية في الكونجرس لتؤكد أن السياسات التي اقترحها الرئيس باراك أوباما من شأنها أن تجعل العجز المالي الذي تعانيه الحكومة الفيدرالية يتجاوز 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2019، حتى بعد عقد كامل من النمو الاقتصادي المستمر. والتراكم السريع للعجز أثناء العقد الذي يفصل بيننا وبين ذلك التاريخ من شأنه أن يؤدي إلى مضاعفة الدين الوطني إلى أن يتجاوز 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
إن مثل هذا العجز المالي الضخم يعني أن الحكومة لابد أن تقترض الأموال التي كانت لتصبح لولا ذلك متاحة لشركات القطاع الخاص لتمويل الاستثمار في خطط تعزيز الإنتاجية وتحسين المعدات. وبدون ذلك الاستثمار فإن النمو الاقتصادي سيكون أبطأ ومستويات المعيشة ستكون أدنى. فضلاً عن ذلك فإن العجز يعني ارتفاع أسعار الفائدة واستمرار اختلال التوازن الدولي.
على النقيض من السياسة النقدية فإن رئيس الولايات المتحدة يستطيع أن يؤثر بشكل مباشر وقوي في مستقبل العجز المالي. وإذا كان الوعد الرئاسي بخفض العجز المالي يشكل التزاماً حقيقياً بخفض الإنفاق وزيادة الضرائب، فقد نرى العجز الخطير الذي نشهده اليوم وقد بدأ في عكس مساره.
ولكن من المؤسف أن أوباما لا يبدي اهتماماً حقيقياً بخفض العجز. ذلك أن الجزء المحوري من أجندته المحلية يركز على خطة لإصلاح نظام الرعاية الصحية، وهي الخطة التي ستكلف أكثر من تريليون دولار على مدى العقد المقبل، والتي يقترح تمويلها من خلال الحد من تبذير برامج الصحة الحكومية الحالية، من دون التقليل من كم الخدمات وجودتها.
والاتجاه الرئيس الثاني لهذه السياسة يتلخص في نظام مقايضة الكربون للحد من الانبعاثات الكربونية. ولكن بدلاً من زيادة العائدات من خلال بيع تصاريح الانبعاثات بالمزاد، وافق أوباما على توزيع هذه التصاريح من دون مقابل على الصناعات المفضلة من أجل اجتذاب العدد الكافي من الأصوات في الكونجرس. وإذا ما أضفنا إلى هذا التعهد بعدم زيادة الضرائب على كل من يكسب أقل من 250 ألف دولار سنوياً فسوف نجد أنفسنا في مواجهة عجز مالي ضخم للغاية ما دام هذا الرئيس مستمراً في ولايته. وإني لأتمنى أن ينجح بقية زعماء مجموعة العشرين في أداء واجبهم على نحو أفضل فيما يتصل بكبح جماح الميزانيات في بلدانهم. وأخيراً هناك الوعد الذي بذله زعماء مجموعة العشرين بالعمل على الحد من الفوائض النقدية والمالية من خلال التنسيق الدولي. ورغم أن أحداً لم يشرح لنا الكيفية التي سيتم بها هذا ''التنسيق''، فسوف نفترض أنه يعني ضمناً أن استراتيجيات الخروج الوطنية لا ينبغي لها أن تؤدي إلى تغيرات كبيرة في أسعار الصرف إلى الحد الذي قد يسفر عن عرقلة الأنماط التجارية القائمة. الواقع أن أسعار الصرف ستتغير رغم ذلك ـ وهذا التغيير ضروري حتى يصبح في الإمكان تقليص الخلل الحالي في التوازن التجاري. والدولار بشكل خاص من المرجح أن يستمر في الهبوط على المقياس التجاري إذا ما استمر المستثمرون في مختلف أنحاء العالم في إهمال النفور المتطرف من المجازفة والذي أدى إلى ارتفاع الدولار بعد عام 2007. وبمجرد أن يطمئن الصينيون إلى معدلات النمو المحلية فمن الممكن أن يسمحوا للقيمة الحقيقية لعملة الصين بالارتفاع. ومن المؤكد أن أسعار الصرف الأخرى ستستجيب لهذه التحولات.
باختصار، سيكون من الخطأ بالنسبة للمستثمرين أو المواطنين العاديين في مختلف أنحاء العالم أن يتحلوا بقدر أعظم مما ينبغي من الثقة في وعود مجموعة العشرين بكبح جماح السياسات النقدية والمالية، ناهيك عن تنفيذ هذه المهمة بطريقة منسقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي