نظرة للماضي ورؤية للمستقبل

تزامن ذكرى يومنا الوطني مع انطلاقة هذا المشروع الحضاري والعلمي العالمي، جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، لم يأت مصادفة، بل كان مرتبا له ومقصودا، وأهمية هذا التزامن والتلاقي ما بين ذكرى تأسيس الوطن وإطلاق هذا المشروع، هو في هذا الربط الذكي الذي له معان عملية ورمزية بين ماض بكل ما يحمله من شجون وجهد وصعاب واعتزاز بما أنجز وتحقق من عملية بناء شامل من الصفر لوطن جمعت أجزاؤه بملحمة توحيد ووحدة وطنية رسختها القلوب والمشاعر قبل السنين، وبين لحظة انطلاقة جديدة نحو مستقبل مشرق بالعلم والتقنية في تأكيد جديد بأن البناء مستمر، والعزيمة متجددة، وأن استعادة أمجاد التاريخ لن تتأتى بقصيد ونشيد، بل بعمل وإنجاز وإنتاج وعلم .
في هذه اللحظة، نعايش ثنائية إحداها تنظر للماضي بكل التقدير والاحترام لكل مجرياته وأحداثه وحوادثه، ماض لا بد أن ينظر إليه راهنا بمنافع ومكاسب الحاضر لا تنافس وتصارع الماضي، منافع بناء وطن بات يضمنا جميعا لنرفل في خيراته وأمنه واستقراره وترابطه، ويذكرنا دوما بمسؤوليتنا تجاهه بأمانة المحافظة عليه ودعم أركانه وأسسه وتنميتها بمزيد من الترابط الوطني الذي يجمعنا ويوحدنا ويسيجنا ضد الفرقة والتشاحن والانقسام - لا قدر الله - ويذكرنا أيضا بأن من أهم مسؤوليتنا تجاه هذا الوطن أن نرسي مبادئ الحق والعدل والمساواة في الحقوق والواجبات، فالأوطان لا تنمو وتقوى وتتماسك إلا بالمشاركة الإيجابية في كل شؤونها وشجونها من جميع أبناء الوطن الواحد، مشاركة التعاون والتعاضد لا مشاركة التنافس والتصارع على مكاسب ضيقة.
أرسيت هذه الدولة منذ نشأتها وحتى اليوم على مبادئ كونت هذه اللحمة ما بين القيادة والشعب، قواعدها الود والاحترام والصدق، وهي لحمة يقوم عليها استقرارها ونموها مما لا يمكن أن نقويها ونرسخها إلا من خلال بعد وطني يكون ترياقا لحمايتنا من سلبيات التغيرات وتقلبات الزمن، وهي تغيرات لا يمكن أن يؤمن جانبها والساحة أمامنا تمتلئ بالعبر، خصوصا أن بلدنا مستهدف، كما قال عن حق الأمير نايف بن عبد العزيز مرات ومرات, وهو مستهدف لأنه يمثل النموذج في الوسطية الإسلامية والانتماء العروبي النقي من شوفينية أو تعصب، ومن تآلف واستقرار وأمان ونمو, وهذه العناصر هي المقومات الأساسية لأي وطن يريد حماية كيانه من تعديات الزمن وغدر الغادرين، ففي ذكرى يومنا الوطني لا بد أن نستلهم كل هذه العبر وندرك أن المسؤولية تكبر كلما كبرت التحديات، وأمامنا كثير من التحديات التي إن لم نواجهها بالعقل والتلاحم فسوف ندفع أمن واستقرار، بل وحدة الوطن ثمنا لتراخينا حيالها وانشغالنا عنها بأنفسنا.
علينا أيضا أن نستلهم رمز هذا الوطن وهو كلمة «التوحيد»، وهي ليست مجرد كلمة عابرة، بل تحمل معاني سامية، تعني أن إنشاء هذا الوطن كان على أسس الوحدة العضوية تحت راية «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، فجمعت بين البعد الدنيوي في هذا التعاقد الإيجابي الذي قام على أساس المواطنة المشتركة، والبعد الديني المتمسك بشريعة الله وجعلها أساس هذا الكيان ومصدر تشريعه، وتمسكنا بهذين البعدين هو ما مكننا من تجاوز كثير من الصعاب والتحديات التي واجهتنا طوال الحقب الماضية، وهو ما يجب أن يكون ماثلا في أذهاننا ونحن نواجه صعاب وتحديات اليوم، فالأوطان كانت وما زالت وستظل أمانة في أعناق أبنائها وأصحاب القرار فيها، ويجب ألا تكون ضحية للصراعات والخلافات والانشقاقات والانقسامات، فالوطن ليس فقط حدودا وأرضا، بل حياة آمنة ومستقرة وعيش كريم.
أما الثنائية الأخرى فهي ترنو للمستقبل بهذا المشروع الحضاري والعلمي الكبير, الذي سيفتتحه الحالم به ومنجزه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بحضور ومشاركة أكثر من 50 رئيس دولة، وهذا الحشد العالمي العالي لحضور هذه الانطلاقة العلمية الكبرى، هو تأكيد أولا على مكانة المملكة الدولية، وثانيا لأهمية هذا المشروع وقيمته وصبغته العالمية، كون العلم قيمة إنسانية وملكية عامة لمن يسهم فيه بجدية.
هذا الحدث العلمي العالمي الذي يدشن اليوم، لا شك في أنه سيحدث نقلة موضوعية وذات قيمة علمية، حدث نستعيد فيه كأمة عربية بعقيدتها الإسلامية دورا رائدا قمنا به في زمن انطوى مع جمودنا وتأخرنا وتقاعسنا، زمن كنا فيه من أكبر المساهمين في تطوير الحضارة الإنسانية بالعلم والابتكار والاكتشاف، وقدمنا خلالها كثيرا من أسس العلوم المختلفة ليأتي من يأتي بعدنا ليبني عليها وينتج حضارة متطورة هي حضارة اليوم، وفي هذا تكمن أهمية وقيمة جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، التي تبرز على أنها تؤسس لدور عربي إسلامي منفتح عالميا في حضارة اليوم التي أسهم أسلافنا العظام بوضع بذورها الأساسية في الطب والهندسة والعلوم والفلك وغيرها، وكي يكون ذلك حقيقة علمية وليس مجرد محاولة، وحتى تصبح هذه الجامعة في مستوى الآمال والطموحات، فعليها أولا أن تكون لها هوية عربية إسلامية متمازجة مع الهوية العلمية العالمية، وثانيا ألا تكتفي بأن تستورد العلوم وتعيد تصديرها، بل أن تنتج هي علوما بالأبحاث والابتكارات والاختراعات.
هذا التزامن ما بين الذكرى والمناسبة، هو ربط للماضي الجميل بالمستقبل الأجمل ـ بإذن الله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي