تعقيبا على بعض ما تناقلته الصحف اليومية عن مأساة جدة
تناقلت الصحف المحلية وما زالت تنقل آراء وأفكار بعض الكتاب والمحللين عن كارثة سيول جدة وما حصدته من أرواح المواطنين والمقيمين ودمار الممتلكات والمنشآت، وتطرقت هذه التحليلات إلى محتويات القرار الحكيم لخادم الحرمين الشريفين الذي جاء إثر الحادث الأليم ومعاقبة المتسببين في ذلك. وكان هناك إجماع على تأييده ومطالبة اللجنة المكلفة بتنفيذ جميع ما جاء في فقراته. غير أنني لمست في مقالات قليلة بعض التحفظ على عناوين هذه المقالات والتحاليل وكذلك على طريق التنفيذ وإن كانت هذه المقالات المحدودة قد وافقت هي الأخرى على أهمية وضرورة تنفيذ ما أمر به خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله -، وأيضا هناك ترحيب شعبي بمواقف الملك عبد الله الشجاعة تجاه هذه الكارثة وسوف نستعرض باختصار ما كتب عن هذه المأساة بالغة الأثر في نفس كل مواطن.
فعلى سبيل المثال لا الحصر:
جاء في جريدة «الوطن» عدد 3353 الصادرة يوم الجمعة 17 ذو الحجة 1430 هـ بعض الكتابات التي تمثل معظم التوجهات لكل من الأستاذ الملحم، والوابلي، المشوح، سعود البلوي، وكذلك شتيوي الغيثي الذين أوضحوا النقاط المهمة لقرار خادم الحرمين الشريفين وما يعنيه من محاسبة المتسببين في هذه الفاجعة، والقضاء على الفساد، وبروز دور الإصلاح، وانفتاح ملفات الفساد والمحاسبة كما تساءل أحدهم عن ظهور عصر جديد للشفافية.
غير أنه من بين أصحاب المقالات المحدودة ذكر الأستاذ سعود الريس في جريدة «الحياة» عدد 17046 يوم السبت الموافق 18 ذو الحجة 1430 هـ، أن محاربة الفساد ليست من الأمور المستحدثة ووجه استغرابه لمن رأى أن قرار خادم الحرمين الشريفين هو بداية لمكافحة الفساد، وذكر قرار مجلس الوزراء الذي صدر في شهر صفر عام 1428 هـ الذي يوافق على الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد. وقد وضح هذا القرار بنودها وأهدافها ووضع آليات تطبيقها ورصد نتائجها وتقويمها ومراقبتها. كما طالبت هذه الاستراتيجية بإنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد لمتابعة الأمور وأن الفساد في كل مكان من العالم.
أما مقال الأستاذ عبد الله دحلان في جريدة «الوطن» عدد 3355 يوم الأحد الموافق 19 ذو الحجة 1430 هـ وهو أحد المقالات المحدودة، فقد استطرد فيما رآه وكتبه عن جدة وتلوثها وعزا عدم استكمال الصرف الصحي إلى قصور في الاعتمادات المالية كأحد الأسباب في تنفيذه، ويمثل ذلك من وجهة نظره 70 في المائة وأن الإهمال والتسيب والفساد الإداري والمالي من قبل المسؤولين على رأس العمل في الأجهزة الرسمية المعنية لا يمثل إلا 30 في المائة من أسباب المشكلة، ولا يجب التوغل في البحث عن حقيقة البناء في مسارات الأودية لأن هذا سيدفعنا إلى البحث في حقيقة المخططات التي اعتمدت ونفذت في هذا الاتجاه، ويرى أنه ليس هناك داع لنبش القبور.
لذا نجد من بين كتاب هذه المقالات والتحليلات من يريد معاقبة المسيء والمتسبب في هذه الكارثة. ويشدد على تنفيذ ما جاء في قرار خادم الحرمين الشريفين بكل فقراته. لأن هذه الفاجعة قد هزت مشاعر الناس جميعا وأثارت كثيرا من الغضب والتساؤلات حول ما يخفى خلف هذه المأساة وهذا أمر مطلوب من اللجنة المكلفة برئاسة أمير منطقة مكة المكرمة الرجل القوي في ذاته والعملي في تصرفاته وتوجيهاته، لتقصي الحقائق ومن ثم رفع النتائج لمقام خادم الحرمين الشريفين. ومن وجهة نظر هؤلاء الكتاب والمحللين أن هذا القرار الحكيم يفتح باب المحاسبة على التهاون أو التلاعب في المال العام ومشاريع التنمية التي ترصد لها الدولة الأموال وتنفذها في عموم مناطق المملكة وليس حصرا على جدة، لو أن الإهمال والتلاعب في جدة قد ظهر جليا للناس لا يمكن التستر عليه دون حساب وعقاب.
غير أن هناك من استغرب أن ما طالب به معظم الكتاب ليس بداية للمحاسبة على الفساد وعلل قوله بظهور القرار الوزاري منذ ثلاثة أعوام تقريبا (1428) لتبني استراتيجية لهذا الغرض وأن قرار الملك عبد الله الأخير ليس إلا تفعيلا لما سبق تبنيه. كما أن الفساد موجود في كل مكان من دول العالم، والحقيقة لا أدري ماذا يقصد الأستاذ (الريس) من ذلك. لا أحد يشك أو ينكر أن الفساد والتلاعب موجود في بلادنا كما هو في دول أخرى. ولكن في الدول الأخرى هناك قوانين تكتب وتطبق، ونحن قد تكون عندنا أنظمة أيضا ولكنها تظل حبيسة الأدراج أو يتم تطبيقها حسب المزاج والرغبة. ومثال ذلك أن الاستراتيجية التي تتحدث عنها صدرت منذ ثلاث سنوات تقريبا. ولم تخرج لأرض الواقع حتى الآن، ألا يعتبر ذلك تلاعبا وإهمالا بقرارات القيادة؟!
أما ما ذكره أستاذنا الكريم عبد الله دحلان في كونه يؤيد ما جاء في قرار الملك إلا أنه لا يرغب في نبش القبور، ويطالب بزيادة الاعتمادات المالية التي كانت أحد أسباب تأخير تنفيذ المشاريع في جدة والتي تمثل 70 في المائة من أسباب الكارثة أما الـ 30 في المائة الأخرى فتمثل الإهمال والتسيب والفساد الإداري والمالي من قبل المسؤولين على رأس العمل في الأجهزة الرسمية المعنية. فقد نسي أن وزارة المالية قد ردت عليه في جريدة «الوطن» عدد 3357 الموافق 21 ذو الحجة 1430 هـ تقول إن ما رصد واعتمد لمشاريع الصرف والري وتصريف المياه في محافظة جدة هو الأعلى على مستوى مدن المملكة بما فيها العاصمة الرياض وقد تجاوز تسعة مليارات ريال، بل إن هذه النسبة هي من النسب الأعلى على مستوى دول العالم. ورغم ذلك أيضا نرى نفق الملك عبد الله الذي أصبح وكأنه بحيرة صناعية والجامعة العلمية الجديدة تمثل بحيرة أخرى وهي من آخر المشاريع المنفذة في جدة، وصرفت عليها المليارات من الريالات والتي تسببت في حصد البشر ودمار المنشآت. وينصحنا أيضا وكأن كلامه موجه للجنة المكلفة ويقول لا يجب التوغل في البحث عن حقيقة البناء في مسارات الأودية لأن ذلك سيدفعنا إلى البحث عن حقيقة المخططات التي اعتمدت ونفذت. ويبدو أستاذنا وكأنه يخفي معلومات مهمة للجنة التحقيق فلماذا لا يتوجه إليها ويصارحها في ذلك كله فاللجنة في اعتقادي لن تنبش القبور ولكنها مضطرة إلى أن تنتصر لمن تحفر لهم القبور وسوف تحاول تقصي الحقائق للوقوف على الحقيقة حتى تتلافى وقوع مثل هذه الأحداث المؤلمة التي آلمت كل مواطن سَوِي وراح ضحيتها الرجال والنساء والأطفال والممتلكات والمنشآت.
الفساد والإهمال والتلاعب أخذ يستشري في بعض المؤسسات سواء كانت حكومية أو غير حكومية حتى بين الأفراد ولا بد من وضع حد لهذا المرض وإيقافه وإعادة النظر في الأنظمة القائمة والقوانين وتفعيل المعطل منها ومحاسبة المتورطين والمتلاعبين الذين عاثوا فسادا في هذا البلد الأمين. كما أن إنشاء هيئة وطنية لمكافحة الفساد أمر ملح وههم جدا وليكون أعضاء هذه الهيئة من المواطنين المخلصين في كل منطقة من مناطق المملكة، ولا تتدخل المؤسسات والوزارات الحكومية وغير الحكومية في أعمالها. يكون لها استقلالية تامة ماليا وإداريا لمتابعة المشاريع وميزانية هذه المؤسسات والوزارات الحكومية، وأيضا كيفية أداء خدماتها للموظفين، مع أنه يحق للهيئة أن تمتلك نشرة توضيحية للمواطنين عما هي بصدده، تنطلق أسبوعيا أو شهريا أو حتى سنويا على أبعد الحدود. وترفع للمقام السامي ما تلاحظه وتراقبه حتى يتم اتخاذ اللازم حياله في ضوء بنود وأهداف الاستراتيجية المعدة مسبقا لهذا الغرض، وأسأل الله التوفيق للمخلصين لخدمة هذا الوطن الغالي وأهله.