من المسؤول ..؟
هذا السؤال ترددت أصداؤه وعلى نطاق واسع أثناء كارثة سيول مدينة جدة، وارتفعت وتيرته بعدما تكشفت أبعادها بما تسببت فيه من تشريد لعائلات عن مساكنها، وفقد أكثر من 116 شخصا أرواحهم - رحمهم الله جميعاً -، وتعرض أملاك عامة وخاصة للتلف، وقبل أن نسعى للإجابة عن سؤال كهذا لمعرفة من هو المسؤول، لابد لنا بداية وكمسلمين من أن نسلم بأن ما حدث هو أولاً وآخرا قضاء وقدر، وأنه لا راد لقضاء الله وقدره مهما فعلنا، فكل ما يمكن فعله في مثل هذه الحالات هو التخفيف من حدة الكارثة والتقليل من آثارها السلبية، إلا أن ما حدث لجنوب مدينة جدة لا يمكن حصره في مسألة القضاء والقدر وكفى، فوقوع الكارثة وإن كان قضاء وقدراً، إلا أن نتائجها وآثارها المدمرة والمفجعة تعود لعدم إجادة وقلة إتقان العمل قصورا أو إهمالاً أو تلاعبا بالمسؤولية لدى جهات وأشخاص تنحصر فيهم المسؤولية، وهو ما أدى لعدم قدرة مدينة مثل جدة على تحمل كارثة أقل من المتوسطة بمقياس كوارث الطبيعة، ولو كانت هناك بنية تحتية وجودها من أبجديات المدن العصرية وأساسياتها، لمرت السيول بأضرار أقل بكثير مما أحدثته في غيبة وانعدام لهذه البنى التحتية الأساسية، وهو ما يعني أن هناك مسؤولية بشرية وإدارية تسببت فيما جرى، وهذا ما استشعره خادم الحرمين الشريفين بتفاعله الواعي والمسؤول بأمره الملكي الذي تضمن تشكيل لجنة تحقيق وتقصي حقائق لتحديد المسؤوليات والمسؤولين عن الكارثة.
من المسؤول..؟ سؤال كبير ومهم يجب ألا نتسرع في الإجابة عنه دون تدقيق موضوعي وعادل حتى لا يظلم أحد ويحمل مسؤوليته ومسؤولية غيره أيضا، بمعنى آخر ألا نلجأ لأسلوب «كبش الفداء»، فعلينا ونحن نسعى لتحديد من هو المسؤول أن يكون بحثنا وتحققنا شاملا لا يستثني جهة ولا شخصا كما جاء في أمر الملك المهم، وهو ما يستدعي أيضاً أن نبحث في جذور المسؤولية قبل فروعها وتفرعاتها، فهذا أمر مهم للغاية حتى نضع أصابعنا على جوهر المسؤولية ومكامن الخلل التي أدت للإخلال بها وعدم الخشية من عواقبها، ولمعرفة كيف ولماذا حدث ما حدث، وهذا هو الأهم.
لتلمس أسباب ما حدث، ووضع اليد بدقة على مكامن المسؤولية عنه، أعتقد أن ذلك مرتبط بالإجابة عن جملة تساؤلات, الإجابة عنها بموضوعية كاملة مهمة، وهي:
أولاً: على مدى الـ 40 سنة الماضية، ما مدى أداء كافة الإدارات المسؤولة والمعنية بشكل مباشر ومحدد عن مدينة جدة لمهامها، كما يجب من ناحية التخطيط السليم للبنية التحتية الأساسية، وتقدمها بمطالب رسمية وموثقة لإنشائها ..؟، أم أن المسؤولين الذين تعاقبوا عليها ضحكوا علينا وخدرونا بمشاريع هشة، وأهدروا المال العام والخاص في تهاون وقصور في أداء مسؤولياتهم، وتفرغهم للقشور المظهرية من مشاريع جمالية ووهمية ينطبق عليها المثل المعروف «من برا الله الله .. ومن جوى يعلم الله» ..؟
ثانياً: أين مشاريع الصرف الصحي وتصريف السيول تحديدا .. ولماذا لم تنجز على مدى الـ 40 سنة الماضية ..؟، من عطلها ومن أخرها ومن تلاعب بها ..؟ وما حجم مسؤوليات كل جهة ومسؤول تولاها ..؟
ثالثاً: أين وكيف صرفت كل الاعتمادات المالية التي رصدت لمدينة جدة خلال العقود الأربعة الماضية .. والقيام برصد لوجود وحجم وكفاءة المشاريع التي صرف عليها والتحقق من جودتها وتناسبها مع المبالغ التي صرفت عليها ..؟ ومن أرسيت عليه ووفق أي معايير وضوابط؟ ومن استلم..؟، ومن أضاع كل هذه السنين دون أن تنجز مشاريع حيوية وأساسية لأي مدينة عصرية .. ؟، وما مدى إيجابية وسلبية كل مسؤول تعاقب على إدارتها وتحمل مسؤوليتها ..؟.
أظن أن الإجابة الدقيقة والموضوعية عن حزمة هذه الأسئلة كفيلة بمعرفة المسؤول جهات أو أشخاصا أو نمطا إداريا، والأهم من ذلك هو وضع اليد فعلا على مكامن الخلل وخاصة الإداري منه لنؤسس بعد ذلك لفكر إداري جديد يرتكز على تحقيق جودة الأداء في ظل نظام رقابي ومحاسبة دقيقين.
المسؤولية كما أراها عما حدث لمدينة مثل جدة من جراء أمطار جاءت بسيول جرفت معها القشرة أو ورقة التوت التي كانت تغطي العيوب وتسترها عن العيون كل هذه السنين الطوال، هي مسؤولية شاملة ومتعددة الرؤوس، فحجم المأساة يعكس حجم المسؤولية عما جرى، فالإهمال والقصور ورداءة الأداء والذي يولد بلا أدنى شك فسادا إداريا وماليا، لا يمكن أن ينشأ ويترعرع إلا في حضن بيئة تسمح له بالنمو، وحال وأحوال مدينة مهمة وكبرى كمدينة جدة كشفته وعرته أمطار وسيول عادية بمقاييس دول عديدة، يؤكد أنها تقدم لنا النموذج السلبي على الإهمال والقصور والفساد المالي والإداري، وجدة تمثل عودا من حزمة، بمعنى أن ما جرى لها قد يجري لغيرها أو مشابها في قطاعات ومسؤوليات أخرى، فهل ننتظر كارثة مماثلة - لا قدر الله - حتى نبدأ بالمعالجة والإصلاح ..؟، أم نجعل من جدة الدرس الذي علينا استيعابه وجعله يؤسس لمرحلة متطورة من قياس مدى جودة الأداء لكافة المرافق والإدارات، وهو قياس بات مطلوبا لمعرفة أوجه الخلل والقصور مسبقا لمعالجتها قبل تسببها لنا بأزمة أو كارثة - لا قدر الله، وهذا القياس يحتاج للقيام بعملية مسح شاملة ودقيقة لأداء كل جهة للتأكد من مستوى الجودة، فالشعور العام يؤكد أن هناك أوجه قصور كثيرة، وشاهده أننا ما زلنا نواجه ونعاني مشكلات وصعوبات نسمع جعجعات كثيرة عن حلها، بينما الواقع على الأرض غير ذلك تماما.