اتركونا نضارب.. فإما نسترد كل شيء وإما نخسر
<a href="mailto:[email protected]">hsaleh_sa@yahoo.com</a>
لم تكن تجربة الأسهم في صعودها وانهيارها بالحدث البسيط, فمشاركة ستة ملايين مواطن في سوق الأسهم يعني أننا أمام ظاهرة هي بالتأكيد كبيرة في نتائجها الاقتصادية والاجتماعية. وإذا كان خبراء المال والاقتصاد قد أفرغوا ما في جعبتهم من أفكار ومعلومات نقدا وتحليلا ودراسة للجوانب الاقتصادية حتى صار الواحد منا في حيرة لكثرة ما سمعه من أقوال وآراء متفقة ومتفائلة في بعض الأحيان ومتناقضة ومتشائمة في أحيان أخرى, فإن الجميع لم يدرك أن لهذه الظاهرة آثارا وجوانب نفسية قد تجعلنا في النهاية نخرج بشخصيات جديدة ومغايرة لما قبل الدخول في غمار هذه التجربة المثيرة. فعندما كان المؤشر يتجه صعودا, وعندما كانت أسعار أسهم معظم الشركات تتجاوز بسرعة الحدود السعرية التي يتوقع أن تستقر عندها, كان هناك في البداية شعور بالقلق وخوف من نهاية سريعة تعيد الأمور إلى سابق عهدها، ولكن استطاع السوق أن يقنع الملايين بجدوى المغامرة، وبالتالي أصبح عندنا مغامرون وليسوا مستثمرين. ولكن عندما وجد الكثير منا أن محافظهم قد انتفخت بفعل الأسعار العالية التي شهدها السوق فإن الشعور العام بالغنى شكل بشكل كبير طبيعة سلوكنا ونوعية مشاعرنا. هذا الشعور غير الحقيقي بالغنى كان قد حذر منه كرين سبين في أواخر التسعينيات إبان الطفرة الكبيرة التي شهدتها الأسهم الأمريكية, فكان يقول إن الشعور بالغنى سيدفع بالإنسان إلى الإنفاق بشكل أكبر، وبالتالي سيتقلص التوفير والادخار، وقد يستسهل الإنسان في ظل هذا الشعور بالاطمئنان إلى الاقتراض لتمويل نفقاته المتزايدة. وعندما تذهب في النهاية هذه الطفرة، وهي نتيجة حتمية شهدتها كل الأسواق العالمية فإنه ليس بالضرورة أن يتخلص هذا الإنسان من عادة الإسراف والإنفاق غير الضروري، وهذا قد يكون مدخلا لاكتساب سلوكيات قد تكون جيدة في بعض الأحيان وسيئة في الكثير من الأحيان. ولقد صاحب صعود الأسهم شعور بالارتياح النفسي وشعور بالاعتزاز لما استطاع أن يحققه من أرباح، وهذا بدوره انعكس على علاقة هذا الإنسان بعائلته وعياله. فالكثير من الزوجات سمعوا لأول مرة وبفضل الأسهم الكلمات الحلوة والرقيقة من أزواجهم, وبفضل الأسهم ازدادت زيارة الأزواج إلى محلات الهدايا وإن كان البعض يشتري الهدايا لزوجاتهم من أجل شراء سكوتهن لجلوسهم الطويل أمام الشاشات ومحطات التلفزيون، ولكن هذه الهدايا بنواياها السيئة والحسنة كان لها أثر إيجابي في علاقة المرأة بزوجها. فعندما اخضرت الأسهم وأينعت وأثمرت اخضرت بها نفوسنا وأصبحنا بفضلها أكثر مغامرة وأكثر حبا للمخاطرة ولكن هل هذه الصفات ستبقى معنا أم أن هذه التجربة بعد نهايتها المأسوية ستجعلنا أكثر محافظة وأقل جرأة في المخاطرة وأكثر ترددا في الدخول في مغامرات جديدة؟
ومثلما كان لصعود الأسهم أثار نفسية أحس بوقعها الكثير من المساهمين فإن الانهيار في السوق ترك هو الآخر من الآثار النفسية ما قد يساعد على فهم سلوك الكثير من المتعاملين الآن في السوق. في الأيام الأولى لانهيار السوق كان هناك شعور بالحزن وخوف طبيعي من ضياع المدخرات وتبخر الأحلام، وكانت أمنية الكثير من صغار المساهمين هي الخروج ولو بجزء من أموالهم, وهنا أحس الكثير بنعمة القناعة, فالكثير كان لا يقتنع بربح الـ 5 والـ 10 والـ 20 في المائة فإن أخذ بها فهو صاحب قلب ضعيف أو مستعجل، وكان عليه أن ينتظر أطول قليلا ليضاعف من رأسماله مرات عديدة وهذا ما كان يحدث فعلا، ولكن بعد الانهيار اكتشف الأغلب من هؤلاء حقيقة أن في القناعة سلامة وفي الطمع ندامة. ومع ازدياد الخسائر يوما بعد يوم أصاب الناس يأس من عودة أموالهم وصار الأمر لا يختلف عندهم, فخسارة الكل مثل خسارة النصف والثلاثة أرباع. وعندما جاءت توجيهات خادم الحرمين الشريفين لتصحيح بعض الأمور وإعادة شيء من الاطمئنان للمساهمين كانت هناك رغبة قوية عند الناس بضرورة تدخل قوي من الدولة. فاستعادت الأسعار بعضا من عافيتها كانت غير مقنعة لهم, والكلام عن عودة هادئة وأسعار معقولة كان يزعجهم ولا يرضيهم، فمطلبهم أن تعود المضاربات للسوق لأنها في اعتقادهم هي الطريق الأسرع لاسترداد أموالهم وغير ذلك فهي خسارة ولا يهم أن تكون صغيرة أو كبيرة. وهذا يفسر لنا كثرة الكلام والحديث في المنتديات عن عودة وشيكة للمضاربين, وفيه أيضا تفسير لفرحة المساهمين واستبشارهم بعودة نسبة التذبذب إلى الـ 10 بدل الـ 5 في المائة أكثر من فرحتهم بالقرارات الأخرى. وحسنا فعلت هيئة السوق عندما جعلت عودة نسبة التذبذب إلى العشرة مصحوبة بقرار تجزئة الأسهم، لأن في ذلك ما يحد من عودة سريعة للمضاربات والوصول مرة أخرى إلى أسعار مبالغ فيها وغير مبررة اقتصاديا ولا استثماريا. أمر آخر, هناك حالة نفسية عند الكثير من المساهمين تدفعهم إلى البقاء في شركات المضاربة، لأنه يصعب عليهم أن يخرجوا من هذه الشركات خوفا من عودة المضاربة ورجوع مضاربي هذه الشركات، وبالتالي ضياع الفرصة عليهم. قد يكون خروجهم من هذه الشركات والمساهمة في شركات أخرى هو قرار اقتصادي صحيح ومربح لهم ولكن نفسيا خروجهم يعني الخسارة واسترداد أموالهم في هذه الشركات أحلى عندهم وأرضى لهم نفسيا من الربح في شركات أخرى. هذه الممانعة النفسية التي يحس بها البعض التي تجعلهم غير قادرين على التحول من شركات ضعيفة إلى شركات واعدة اقتصاديا لا يمكن أن نعالجها بالمزيد من البيانات المالية والتحليلات الاقتصادية والإقناع بعرض الأرقام والحقائق عن هذه الشركات. ولكن هؤلاء المساهمون هم بحاجة إلى مخاطبة نفسية وذكاء عاطفي ينتشلهم من أوهام الخوف والتعلق بآمال خادعة وغير واقعية. ومما يُؤسف له أننا لا نجد مثل هذا النوع من الخطاب في البرامج الاقتصادية ولا نجد من يعطيه اهتماما كافيا فيما نشاهده من برامج أو دورات متخصصة في عملية الاستثمار والمتاجرة بالأسهم.
ختاما نحن لا نريد أن نبالغ في التنظير لممارسة هي في البداية والنهاية عملية اقتصادية ولكن هذه الممارسة هي في الحقيقة مجموعة قرارات يدخل فيها العامل النفسي بشكل قوي ومؤثر، ولهذا فإننا لسنا بحاجة فقط إلى ذكاء عقلي يحلل الأمور ويحسب الأرباح ويخمن حركة السوق، فإننا أيضا بحاجة إلى ذكاء عاطفي نستطيع من خلاله أن نتجاوز الكثير من الأمور النفسية التي بسببها قد نتخذ القرار الخاطئ بالرغم من أن التفكر والتحليل أرشدانا إلى عكس مثل هذا القرار الخاطئ. عندما كانت الأسهم ترتفع وترتفع وبعدها ترتفع وعندما حدث الانهيار وأيقن الناس أنهم أعجز من إيقاف هذا الانهيار أدرك الجميع أهمية العامل النفسي في الصعود والانهيار وكان الرابح في كلتا الحالتين هو مَن استطاع أن يقرأ جيدا المناخ النفسي الذي يتحرك فيه السوق، فكان يدخل قبل الآخرين وكان يختفي دون أن يشعر به الآخرون وليفاجأوا بغيابه عندما لا يجدوه معهم وهم يحاولون الهروب من السوق. نحن حقا بحاجة إلى ثقافة نفسية ترشد من ممارستنا الاستثمارية في سوق الأسهم، وعندما يكون عندنا ذلك القدر المطلوب من هذه الثقافة سنكون أنضج كمستثمرين وسينعكس ذلك على سوقنا بالمزيد من الاستقرار والهدوء إن شاء الله.