عرفات يرحل صامدا ويذكر صامتا
أحيا الفلسطينيون قبل أسبوع الذكرى الأولى لرحيل الزعيم والرئيس ياسر عرفات، رحمه الله، بعد صراع مع مرض غريب ومفاجئ لم يمهله طويلا، فرحل إلى ربه في مستشفى فرنسي بعد نقله إليه، والمرض الذي أصاب عرفات ثم وفاته شابه الكثير من اللغط حول احتمال تعرضه للتسميم من قبل الإسرائيليين بعد أن أعياهم وعجزوا عن التخلص منه سياسيا، بالرغم من محاصرته في مقره لما يقرب من ثلاثة أعوام، والعالم المتحضر بشرعيته الدولية والعرب جميعا يتفرجون ولا يحركون ساكنا تجاه هذا التصرف الهمجي لشارون مع زعيم شعب منتخب ديمقراطيا.
فرضية اغتيال الزعيم الفلسطيني بالسم عن طريق دولة العدو الصهيوني فرضية أقرب للحقيقة، فقد دأبت هذه الدولة التي قامت أساسا على الاغتصاب والتزوير والإرهاب على الأساليب القذرة والإجرامية منذ أن فرضت على أرض فلسطين بخبث الاستعمار البريطاني، وتاريخها ملطخ بالجرائم الكبرى بدءا من مذابح "دير ياسين" عام 48 وما ارتكبته عصابات "الهاجانا" آنذاك من جرائم ضد الفلسطينيين الآمنين بهدف ترويعهم لإجبارهم على ترك مدنهم وقراهم لليهود القادمين من وراء البحار، مرورا بمذابح "صبرا وشاتيلا" في بيروت أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان أوائل الثمانينيات الميلادية بقيادة شارون إياه، وقصف مقر القوات الدولية فيما عرف بمذبحة "قانا" اللبنانية الذي لجأ إليه لبنانيون مدنيون هربا من القصف الإسرائيلي، وكان بيريز نائب شارون حاليا هو رئيس الوزراء آنذاك الذي يعتبره بعض العرب رجل سلام، وليس انتهاء بمذبحة "جنين" قبل سنوات على يد شارون ذاته، التي اعتبرت حتى دوليا جريمة حرب، واغتيال قيادات فلسطينية ببشاعة مثل الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، رحمهما الله.
ولو تركنا تاريخ هذه الدولة الإرهابي كدليل على جرمها في اغتيال الرئيس عرفات، رحمه الله، جانبا فما عسانا أن نقول عن أدلة مادية أخرى تؤكد إقدام إسرائيل على التخلص منه؟ فمنذ ما قبل عام على وفاته والمسؤولون الإسرائيليون يهددون بتصفيته جسديا وبشكل علني، وقبل أسابيع على مرضه ومن ثم رحيله صرح وزير الحرب الإسرائيلي موفاز أن أيام عرفات باتت معدودة، وحين وافق شارون على سفره لفرنسا للعلاج قال متحدثا باسمه ردا على من اعترض من المتشددين الصهاينة: لقد سمحنا له لأنه لن يعود حيا، بل إن مسؤولا إسرائيليا قال متندرا ببجاحة: لقد أعطي، أي عرفات، تذكرة باتجاه واحد one way ticket، فهل بعد هذه أدلة على أن أبو عمار، رحمه الله، ذهب ضحية اغتيال جبانة؟ وهذا ما يجعل الفلسطينيين إلى جانب الحسرة على فقدانهم لزعيم نضالهم الوطني، يشعرون بحسرة أن دم رمزهم النضالي ذهب هدرا.
على أية حال وفاة شخصية بحجم ياسر عرفات، رحمه الله، خصوصا غيلة لن يسدل عليها ستار النسيان، فأبو عمار بشخصيته التاريخية ودوره النضالي الطويل وكاريزميته المميزة ستجعله حاضرا دائما في المخيلة الفلسطينية، العربية، والعالمية، بل والإسرائيلية لزمن طويل، فأبو عمار أو الختيار، كما يلقبونه كناية عن التوقير سيظل رمزا لنضال الشعب الفلسطيني الطويل والصعب الذي كان فيه مؤثرا وفاعلا على مدى 40 سنة قاد فيها أبو عمار النضال الفلسطيني بفاعلية حتى استطاع خلالها أن يحول قضية الشعب الفلسطيني من مجرد مسألة لاجئين إلى قضية ملتهبة لشعب يناضل من أجل وطنه.
تميز أبو عمار خلال مسيرته النضالية المفعمة بالأحداث والمعارك والصراعات بروح الثقة بالنصر والتفاؤل به، وكثيرا ما كان يردد قوله تعالى "يرونه بعيدا ونراه قريبا"، ويشير دائما للآية الكريمة في سورة الإسراء "... وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا"، ومثل هذه العبارات التي كان كثيرا ما يستخدمها مقصودة لغرض رفع الروح المعنوية للشعب الفلسطيني من ناحية، والتأثير النفسي على الإسرائيليين واليهود حين يستخدم عبارات لها مدلول ديني من ناحية أخرى، والعبارات التي يستخدمها في تصريحاته لها مدلولات يعلم مدى قوة تأثيرها مثل عبارته الشهيرة التي يقول بها دائما: إن زهرة من زهراتنا وشبلا من أشبالنا سوف يرفع علم فلسطين على أسوار القدس.. شاء من شاء وأبى من أبى، وأحيانا عندما يكون في توهجه يضيف بتحد وبلهجة دارجة: واللي مش عاجبه يشرب من البحر.
المحطات التي توقف عندها أبو عمار على مدى 40 سنة منذ بدء العمل المسلح في أوائل الستينيات كانت مليئة بالمعارك صاخبة بالأحداث، إلا أنه امتلك قدرة عجيبة على التكيف مع كل مرحلة دون أن يفرّط في الحقوق الأساسية، فقد كان وثورته مثل طائر الفينق الذي يولد من الرماد، فبعد خروجه من بيروت عام 82 عقب العدوان الإسرائيلي على لبنان ومحاصرة بيروت راحلا أو مرحلا إلى تونس فيما يشبه المنفى على بعد مئات الأميال عن فلسطين قال إنه ذاهب إلى فلسطين، وظن وقتها أن ذلك ما هو إلا هرطقة سياسية، ولم تمض سنوات قليلة إلا أن فاجأ الجميع بعودته إلى فلسطين فعلا كرئيس لسلطة فلسطينية باتفاقية "أوسلو" وعلى بعد بضعة كيلو مترات من القدس التي تمنى أن يدفن فيها ميتا إن لم يدخلها حيا.
لقد نعت جريدة فرنسية الرئيس ياسر عرفات، رحمه الله، صباح وفاته في عنوان كبير على صفحتها الأولى قائلة: رحل ياسر عرفات فلسطين، وكان هذا العنوان معبرا فعلا عن تلاحم أبو عمار مع فلسطين، فالقضية الفلسطينية أخذت موقعا بارزا في المجتمع الدولي مع عرفات، فقد كان بالفعل معبرا عن قضية شعبه حتى وصل بها إلى هيئة الأمم المتحدة ليخاطب العالم من على منبرها قائلا: لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي وكررها ثلاث مرات، ودوره البارز والمهم في إحياء القضية الفلسطينية بعدما حاول الصهاينة الترويج لأكذوبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" لا يشكك به أحد، فقد قاتل ببسالة وخاض السلام بشرف مفرقا ما بين السلام والاستسلام، ولهذا فقد دفع ثمنا باهظا حين رفض كل إغراءات وضغوط "كامب ديفيد".
لقد رحل الختيار، رحمه الله، ولكن قضية فلسطين ستظل حية في قلب كل عربي ومسلم، والقدس الشريف ستعود، بإذن الله، وسترفع زهرة أو شبل فلسطيني أعلام النصر على أسوار القدس، وما يرونه مستحيلا نراه حقيقة.