المنتدى العالمي للطاقة يلعب دورا أساسيا في تقريب وجهات النظر بين مستهلكي النفط ومنتجيه
تمكن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بحق من تأصيل وترسيخ صورته النمطية في أذهان الناس على أنه رجل المبادرات. هذه المبادرات شملت في الداخل مبادرة الحوار الوطني، مكافحة الفقر، الإفصاح والشفافية في إدارة الشأن العام، الانفتاح الإعلامي، إصلاح نظام القضاء، فتح النوافذ والأبواب للمرأة، تحفيز الإبداع، وفتح الجامعات التي تعنى بالعلم والابتكار والاهتمام بالاقتصاد المعرفي، وتشجيع الابتعاث الخارجي إلى الجامعات المرموقة.
أما في الخارج فإن القائمة تضم عديدا من المبادرات التي تعدى معظمها مرحلة الشعار إلى التطبيق العملي، من ذلك حوار الأديان، مبادرة السلام العربية، توفير فرص النجاح لقمة الكويت الاقتصادية، الدعم المالي لمشاريع البيئة، الاستثمار الزراعي في الخارج بهدف تحقيق الأمن الغذائي، وهي مبادرة تستفيد منها المملكة والدول التي تستقطب هذا الاستثمار وغير ذلك.
أما مبادرات خادم الحرمين الشريفين في مجال الطاقة فقد سئلت عنها على هامش ندوة لرؤساء المنظمات الدولية في فيينا، فكان جوابي أن هناك مبادرتين رئيسيتين:
الأولى: إنشاء الأمانة العامة لمنتدى الطاقة العالمي.
الثانية: اجتثاث فقر الطاقة وتوفير الطاقة للفقراء.
أولا: منتدى الطاقة العالمي
هذا المنتدى مقره الدائم في مدينة الرياض في الحي الدبلوماسي، وقد جاء تتويجا لمراحل التعاون الدولي بين منتجي الطاقة ومستهلكيها، وهي مراحل استنفدت كثيرا من الجهد الذي تحملت المملكة الجزء الأكبر منه. ومن يعود إلى مرحلة الستينيات والسبعينيات يلاحظ أن العلاقة بين منتجي الطاقة ومستهلكيها شابها كثير من الحزازات والتوترات، خصوصا بعد إنشاء وكالة الطاقة الدولية عام 1974، وما صاحبها من نظرة سلبية لأي تجمع بترولي خارج نطاق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وتأتي منظمة «أوبك» على رأس هذه التجمعات.
وخلال النصف الأول من عقد السبعينيات، وبعد أن استكملت الدول الأعضاء في «أوبك» سيطرتها على قرارات الإنتاج والأسعار، وصارت العلاقة مع المستهلكين مباشرة، دبت في العالم روح حذرة جديدة للتعاون والتقارب بين الأطراف الرسمية بعد أن أزاحت الأحداث الشركات الكبرى من خط المواجهة.
أتت المبادرة - كما هي العادة - من الدول المصدرة للبترول في منظمة «أوبك» في قمتهم الأولى التي عقدت في الجزائر في مطلع عام 1975، حيث أبدوا كل الاستعداد والتعاون مع الدول الصناعية من خلال مؤتمر دولي للتباحث في كل الأمور التي تهم الطرفين، ومن أهمها الطاقة.
هذا المؤتمر انعقد خلال الفترة من أواخر 1975 حتى نيسان (أبريل) 1977 ولم ينجم عنه أي شيء سوى التعرف على مشكلات كل طرف. وعاد التنافر بين الطرفين خلال تلك الفترة، خصوصا بعد التطورات السياسية التي حدثت في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل عام. ولم تكن الدول الصناعية حريصة على الدخول في حوارات جديدة، خصوصا بعد أن استطاعت عبور مرحلة التكيف مع أسعار البترول الجديدة، الأمر الذي يعبر عنه في انخفاض كثافة الطاقة لدى المستهلكين (انخفاض كمية الطاقة اللازمة لإنتاج وحدة واحدة من الناتج المحلي).
واعتبارا من 1991 عاد الحوار بين المنتجين والمستهلكين بدعوة رسمية من فرنسا، وتشجيع ودعم من المملكة، وتم الاجتماع الأول في باريس تلته دورات متعددة كل سنتين، كان أهمها الدورة التي استضافتها المملكة عام 2000، إذ فاجأ الملك عبد الله المؤتمرين باقتراح تأسيس أمانة عامة لما عرفت فيما بعد بمنتدى الطاقة الدولي، مبدياً استعداد المملكة لاستضافته مع ما يتطلبه ذلك من تكاليف وهكذا كان. هذا المنتدى، من خلال مكتبه التنفيذي والمؤتمر الوزاري الذي يعقد كل سنتين، أصبح البوتقة التي تجمع الأطراف إلى كلمة سواء بعد أن كانوا على طرفي نقيض.
هذه المقالة هدفها وصف مبادرة الملك عبد الله في مجال الطاقة، وليس سرد وتحليل أوجه التعاون في هذا المجال. لكن مثلا واحدا يبرهن على جدوى التعاون الدولي في مجال الطاقة خاصة عندما تتبناه المملكة، وهي دولة تثبت شعورها بالمسؤولية الدولية كلما دعت الحاجة. هذا المثل سبق لي أن أشرت إلى أحد جوانبه في مقالة نشرتها هذه الجريدة في عددها الصادر بتاريخ 29 آذار (مارس) 2009 على هامش ندوة أوبك الدولية، وما ظهر من خلال الأوراق والمناقشات من رأي عام جديد يحترم إرادة الدول المصدرة للبترول، ويطرح أفكارا جديدة في التعاون معها في مجال الأسعار والإنتاج، بل ويعترف بضرورة أن تستقر الأسعار عند مستويات تحفز الاستثمارات في بناء الطاقات الإنتاجية الإضافية.
وممن استشهدت بأفكارهم التي طرحت في الندوة رئيس شركة إيني الإيطالية، السنيور باولو سكاروني، الذي عاد وكتب يوم الجمعة 19 شباط (فبراير) 2010 مقالة شيقة في جريدة «وول ستريت» يخاطب فيها أقرانه من رؤساء الشركات البترولية بعنوان «تذكروا أنه نفطهم لا نفطنا». وكأني بالقارئ المتحمس يقول «أخيرا أدركوا هذه البديهية» والكاتب يدعو للتعاون ويعرض نموذج شركته وينوه بالشركات الوطنية التي ظهرت خارج نطاق العالم الرأسمالي التقليدي، ومن أهمها - كما ذكر هو - شركة أرامكو السعودية. ويتفق مع رئيسها، السيد خالد الفالح حول تهافت نظرية ذروة الإنتاج العالمي من البترول. وما قاله رئيس إيني يؤكد التحسن الكبير الذي طرأ على أسلوب التفكير والتعامل بين منتجي الطاقة ومستهلكيها، وهذه ثمرة من ثمرات التعاون من خلال منتدى الطاقة الذي بدوره لا يعدو أن يكون مبادرة من خادم الحرمين الشريفين.
الجدير بالذكر أن المؤتمر الوزاري الثاني عشر للمنتدى سيعقد في المكسيك في نهاية شهر آذار (مارس) من هذا العام، وسوف ينظر في مقترح من شأنه تعزيز وتقوية المنتدى بشكل يمكنه من أداء مهمته على نحو يلبي الفكرة الأساسية من مبادرة خادم الحرمين الشريفين، وهي دفع الحوار بين المنتجين والمستهلكين إلى حقبة من التعاون والتفاهم لا رجوع فيها باعتبار أن هذا هو الخيار الأفضل بل الوحيد.
ثانيا: فقر الطاقة هو المبادرة الثانية لخادم الحرمين الشريفين تستمد جذورها من الإعلان الصادر عن قمة أوبك الثالثة، التي استضافتها المملكة في مدينة الرياض خلال شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2007.
وعلى خلاف النهج الذي اتبع في القمم السابقة فقد جاء الإعلان من ثلاثة فصول. الأول متعلق باستقرار أسواق الطاقة العالمية، والثاني عن الطاقة من أجل تحقيق التنمية المستدامة، أما الثالث فيعالج موقف الدول الأعضاء من علاقة الطاقة بالبيئة. والحقيقة أن كل ما ورد في الإعلان يعد من مآثر الملك، فهو الذي أدار جلسات المؤتمر بحكمة وكفاءة.
إن ما يهمنا في هذا المقال ونحن بصدد سرد مبادرات الملك في مجال الطاقة هو الفصل الثاني الذي قرر فيه الرؤساء من بين أمور أخرى ما يلي:
«الاستمرار في ربط برامج مؤسسات العون الإنمائي في دول المنظمة بما في ذلك برامج صندوق أوبك للتنمية الدولية مع أهداف التنمية المستدامة والقضاء على فقر الطاقة في الدول النامية ودراسة السبل والوسائل التي ترمي إلى تعزيز هذه الجهود بالاشتراك مع صناعة الطاقة والمؤسسات المالية الأخرى».
والمقصود بفقر الطاقة هو وجود ما لا يقل عن 1.6 مليار نسمة من سكان العالم من دون طاقة كهربائية و2 مليار نسمة يستعملون الوقود الحيوي (الحطب والجلة) للتدفئة والطهي، علاوة على أن إحصاءات منظمة الصحة العالمية تؤكد أن ما لا يقل عن 1.5 مليون سيدة تقضي سنوياً بسبب استنشاق الهواء الفاسد الناتج عن حرق الوقود غير الصحي.
ونظراً لأن البيان خاطب صندوق الأوبك الدولية «أوفيد» الذي أتشرف بإدارته، فقد شرعنا في الحال بوضع خطة عمل تستكشف أسلوب تنفيذ هذه الفقرة وعقدنا لهذا الغرض ورشة عمل في أبوجا، عاصمة نيجيريا، خلال شهر يونيو 2008 للتعرف على مشكلة فقر الطاقة وكيفية الوصول إلى حلول طويلة الأمد، وخلصنا إلى أن السوق قد فشلت في حل مشكلة الطاقة في المناطق الفقيرة في العالم خاصة منطقة ما يعرف بجنوب الصحراء الإفريقية. ولا بد من تضافر جهود الدول ومؤسسات التمويل الدولية لوضع الحلول المرجوة. هذه الخلاصة أتت ممن شاركوا في هذه الدراسة، وهم ممثلو شركات الطاقة ومؤسسات التمويل والتنمية الدولية. وقد رفعنا نتائج هذه الورشة إلى المجلس الوزاري لصندوق الأوبك «أوفيد»، في دورته المنعقدة في شهر يونيو 2008 في مدينة أصفهان. وخلال صيف 2008 عندما تصاعدت الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، دعا خادم الحرمين الشريفين - فيما يمكن وصفه بالشق الثاني من مبادرته حول فقر الطاقة - إلى مؤتمر دولي انعقد في مدينة جدة يوم 22 يونيو 2008، وألقى بيانه الشهير الذي نادى فيه بتوفير الطاقة للفقراء energy for the poor. هذا البيان تضمن العديد من البنود بدأها بدعوة البنك الدولي لمناشدة المانحين المشاركة في هذه المبادرة، ودعوة المجلس الوزاري لصندوق الأوبك، «أوفيد»، بتوفير مليار دولار لهذا الغرض مع استعداد المملكة للمشاركة في هذين البرنامجين، وتخصيص مبلغ 500 مليون دولار لقروض ميسرة عن طريق الصندوق السعودي للتنمية لتمويل مشاريع تساعد الدول النامية على الحصول على الطاقة.
نحن في صندوق الأوبك «أوفيد» نعمل بكل ما نملكه من إمكانيات لتنفيذ البند الثاني الخاص بنا وسوف نعرض هذا البند على مجلس محافظي أوفيد المقرر يوم 16 مارس من هذا العام، ومن ثم إلى المجلس الوزاري السنوي المقرر عقده في فنزويلا بتاريخ 17 يونيو 2010. ويحدونا أمل كبير في أن دولنا لن تردنا خائبين.
إن قطاع الطاقة هو من صلب النشاط الذي يقوم به أوفيد للدول النامية. وقد التزمنا خلال الأعوام الماضية منذ تأسيس أوفيد بنسبة 20 في المائة من نشاطنا للطاقة ومعظمه يذهب للدول المنخفضة الدخل. لكن مشكلة الطاقة للفقراء، على النحو الذي وصفته رقمياً في هذا العرض، أعمق من ذلك وتحتاج إلى حشد الموارد وتضافر الجهود.
وأخيراً سألني أحد المشاركين في الندوة المصغرة عن الجانب الإنساني والأخلاقي لمبادرة خادم الحرمين الشريفين: الطاقة للفقراء فأوردت له مثلين صادفناهما أخيرا.
الأول: قدمنا قرضاً ميسراً لدولة جامبيا في إفريقيا، وهي من الدول الفقيرة، لتمويل مشروع إضاءة الطريق الذي يربط العاصمة بانجول بالمطار بطول 30 كيلومتراً. وفوجئنا بوفد من تلك الدولة، التي لا يتعدى سكانها 1.7 مليون نسمة، يزورنا في مقر أوفيد لتقديم الشكر على هذا المشروع الذي ساهم بشكل كبير في خفض معدل الجرائم التي تحدث في المساء، وهو أثر لم يخطر لنا ببال.
المثل الثاني: قمنا بتمويل مشروع شبكة إمدادات الغاز إلى المنازل في إقليم لوري في أرمينيا، وهي منطقة تبعد عن العاصمة مسافة ساعتين بالسيارة وزرنا أحد البيوت الفقيرة، واستقبلتنا ربة المنزل، وهي سيدة مسنة اسمها «أناهيد» التي رجبت بنا، وقدمت لنا أول وجبة تطهوها على موقد الغاز بعد إيصال الشبكة إلى منزلها المتواضع. كانت الأسرة مكونة من الأم وسيدة في مقتبل العمر وطفلين. وعندما رفعت رأسي إلى الحائط لمحت صورة شاب، لا تتعدى سنه الثلاثين على أكثر تقدير معلقة. وعندما أرجعت بصري كرة أخرى لحظت السيدة الأم والدموع تتساقط من عينيها، وعرفت أن هذا الشاب هو ابنها الوحيد، وقد ذهب يوماً إلى الغابة لكي يحتطب وقوداً لمنزله فهوت على رأسه شجرة كان يحاول قطعها وأودت بحياته. استعادت السيدة أناهيد جأشها وقالت وهي تودعني: انقل تحياتي وامتناني للملك ولكل من يحاول أن يسهم في حل مشكلة فقراء العالم.
وبعد، إن للفقر وجوها متعددة تضمنتها أهداف الألفية الثمانية التي لم تشمل لسبب مجهول فقر الطاقة، وهو العمل الرئيسي الذي من دونه لا يمكن القضاء على أشكال الفقر المختلفة من صحة وتعليم وبيئة ... إلخ. وهذه الفجوة هي التي تفسر أهمية مبادرة خادم الحرمين الشريفين وكأنه - حفظة الله - أضاف هدفاً تاسعاً من دونه لا يمكن تحقيق أهداف الألفية الثمانية.
وفق الله خادم الحرمين الشريفين في بذل الإحسان لمن يستحقه، وفي الإحسان في أداء ما عليه من مهمات تنوء بالعصبة أولي القوة، إنه سميع مجيب.