زكاتنا .. بين التهرُّب منها والعاملين عليها

بلغت الزكاة المحصلة عن طريق مصلحة الزكاة والدخل خلال السنوات الخمس الأخيرة أكثر من 28 مليار ريال، بمعدل سنوي قدره 5.6 مليار ريال سنوياً. وبحسبة بسيطة يتبين أن هذه الزكاة محصلة لاستثمارات محلية تبلغ 224 مليار ريال تقريباً، ويعد هذا الرقم تقديراً مبسطاً تماماً دون أي حسابات معقدة أو معادلات تفصيلية، ولا يوجد رقم إحصائي محدد يمكن من خلاله قياس حجم الاستثمارات في القطاع الخاص، إلا أنه يمكن بحسابات بدائية أن نقدر حجم الاستثمارات في القطاع الخاص بمبلغ 750 مليارا محسوبة على أساس عدد السجلات التجارية القائمة في المملكة البالغة 750 ألف سجل تجاري بافتراض أن متوسط الاستثمار لكل سجل يبلغ مليون ريال، وذلك بعد استبعاد التراخيص الأخرى غير الخاضعة للسجل التجاري على افتراض أنها تعادل الاستثمارات الأجنبية التي لا تخضع للزكاة.
تحفظاً على هذه الأرقام، حتى لا أتهم بالمبالغة سأعتمد في تحليلي هنا على نصفها فقط, أي على اعتبار أن حجم الاستثمارات الخاضعة للزكاة يبلغ 375 مليار ريال فقط، بالتالي فإن الزكاة الواجبة عليها سنويا تبلغ 9.4 مليار ريال، وعلى افتراض هذه المعادلة المتحفظة فإن التهرب الزكوي سنوياً قد يصل إلى أربعة مليارات ريال، علماً بأن هذه التقديرات محسوبة على أساس الخاضعين لجباية الزكاة فقط, بمعنى استبعاد الأفراد والعقارات والاستثمارات غير المسجلة .. إلخ.
هل هناك تهرب من دفع الزكاة؟ بالتأكيد نعم! كم حجم هذا التهرب؟ لا أحد يعلم! بالتالي فإن الزكاة المحصلة عن طريق المصلحة البالغ معدلها 5.6 مليار ريال سنوياً ليست بالضرورة إنجازاً بل على العكس من ذلك فقد تكون إشارة كبيرة إلى التقصير! المتهم هنا ليست المصلحة, لكنها المعلومات, حيث لا توجد أو بالأصح لا تتوافر المعلومات المساندة لمعرفة المعدل الصحيح حتى يمكن الحكم على تقصير المصلحة أو إنجازها فيما يخص جباية الزكاة!
لا شك عندي أن هناك تطورا كبيرا في طريقة العمل في المصلحة ، سواء كان ذلك بزيادة كفاءة العاملين أو بفاعلية الإجراءات والمتابعة أو باستخدام التقنية للمتابعة، والعامل الحاسم في رأيي لجباية الزكاة هو التضييق على المكلفين بربط تعاملاتهم مع الجهات المختلفة بشهادة الزكاة، لكن ليس بالضرورة أن تعود الزيادة الناتجة من جباية الزكاة إلى فاعلية مصلحة الزكاة والدخل، فقد تكون الزيادة في إيرادات المصلحة عائدة إلى زيادة عدد وحجم استثمارات القطاع الخاص في السنوات الأخيرة.
ولفت انتباهي أن موظفي المصلحة يتقاضون رواتبهم وبدلاتهم مثلهم مثل أي موظف آخر في القطاع العام، وفي رأيي هذا يمثل عيباً كبيراً في النظام ككل ويخالف الطبيعة البشرية بشكل خاص، فمن ناحية يجب أن تستقطب المصلحة أفضل الكوادر من حيث التأهيل والتدريب والكفاية، كما يجب عليها أن تصرف كثيرا لتأهيلهم وتدريبهم والمحافظة عليهم، ولا يخفى على عاقل ما قد يتعرض له الموظف العادي من إغراءات مادية من قبل ضعاف النفوس لإنهاء الإجراءات أو لتسريع معاملات, فكيف إذا كان هذا الموظف بإمكانه (وحده أو بالاتفاق مع غيره) أن يستخرج شهادة زكاة أو يعطي تخفيضات على مبالغ الزكاة والضرائب؟! وهذا لا يمكن أن ينسجم مع طريقة معاملة هؤلاء الموظفين بالراتب والمرتبة والدرجة فقط.
تضمنت مصارف الزكاة ''العاملين عليها'' كأحد المستحقين الرئيسيين الثمانية للزكاة، ويحصل هؤلاء العاملون على مكافآتهم وأتعابهم من الزكاة التي يجبونها من الواجبة عليهم بما يأذن به ولي الأمر وفق قواعد متغيرة وفق الزمان والمكان، وهذا هو التعامل الأنسب مع الطبيعة البشرية، حتى تتوافق المسؤوليات والواجبات مع ما يتقاضاه الموظف مقابل هذا العمل، وحيث إن خلاصة عمل المصلحة كله تتركز في جباية أموال الزكاة والضرائب من المكلفين, فمن المنطقي أن يحصل هؤلاء الجباة على مكافآت تحسب على أساس ما تتم جبايته ومدى صعوبة التحصيل من عدمه وليس على أساس ساعات العمل التي يمضونها في العمل التي قد تكون صرفت في أمور لا فائدة منها، وقد يكون منها ''شرب الشاي ودق الحنك وقراءة الصحف''. إن مكافأة العاملين في المصلحة على أساس ما يتم تحصيله ليس بالأمر المستحدث، حيث تقوم معظم دول العالم بمكافأة العاملين في مجال الضرائب على أساس التحصيل كجزء من معادلة احتساب راتب الموظف، وإلا ما الحافز الذي يجعل الموظف يبذل الجهد المطلوب, بل يزيد عليه, لتحصيل أموال الدولة, وهي أموال لا تخصه؟ وما الذي يجعل الموظف لا يخضع لممارسات الواسطة لتخفيض مبالغ الزكاة التي ربما تأتي من فزعة لأخ أو معروف لصديق أو تبييض وجه القبيلة؟ بل الأدهى والأمر, ما الذي يحمي الموظف من وساوس الشيطان لطلب أو قبول رشوة من هنا أو هناك إذا لم يتسلح بالورع الكافي لرد الفساد من أصوله؟ ولا سيما أن بعض الرشا ربما يتعدى راتب الموظف لعدة سنوات!
لزيادة فاعلية أموال الزكاة في تحقيق أهدافها الشرعية والاجتماعية والاقتصادية، والمساهمة في تحقيق رفاهية المواطنين، خاصة أن نظام جباية الزكاة الجديد يدرس حالياً في هيئة الخبراء، فإني أقترح مجموعة من المقترحات لعلها تجد قلباً مشرعاً لها وعقلاً مسؤولا لقبولها:
1 ـ أن يتم وضع نظام لمكافأة موظفي المصلحة ذوي العلاقة بالاحتساب والتحصيل، وتعتمد هذه المكافأة على راتب ثابت يغطي الاحتياجات الأساسية وراتب متغير يعتمد على طبيعة العمل وفاعلية الموظف في زيادة المتحصلات من الزكاة والضرائب، وأجزم أن هذا سيسهم مساهمة فاعلة في زيادة إيرادات المصلحة, بل مضاعفتها.
2 ـ أن يتم وضع نظام فاعل للرقابة على الاحتساب والتحصيل يتضمن العقوبات الكافية لمسيئي الاستخدام لنظام المكافآت، حتى يتم التحقق من ضمان حسن استخدام السلطة، والابتعاد عن التأثيرات السلبية لنظام التحفيز بالمكافآت، وهذا أمر لا بد منه لضبط نظام مكافآت التحصيل حتى نضمن حسن استخدام النظام وعدم تأثير ذلك في عدالة الاحتساب ومعقوليته.
3 ـ أن تقوم الدولة بالسماح للأفراد وجميع الشركات بالتصرف في جزء من زكاة أموالهم بما يعادل النصف على الأقل، على أن يحدد جزء منه يتصرف فيه المكلف بمعرفته ولا يسأل عنه ويكون بمقدار الربع، بينما يدفع الربع إلى مصارف الزكاة عن طريق الجمعيات الخيرية المنتشرة في أنحاء المملكة أو لصناديق الأسر المنتشرة في كثير من البيوت العريقة، بشرط تقديم ما يثبت أنه تم صرفه في مصارف الزكاة الشرعية، ويستمر في تطبيق النظام الحالي, وهو دفع الزكاة بالكامل للمصلحة على الشركات المساهمة المدرجة التي لا ينطبق عليها الإجراء أعلاه، وهذا الإجراء لن يزيد إيرادات المصلحة بالضرورة لكنه بالتأكيد سيسهم إسهاما بالغا في تقليل التهرب من ناحية، وزيادة دخل الجمعيات الخيرية التي تتشارك مع المصلحة والضمان الاجتماعي لتحقيق الأهداف الاجتماعية والتنموية نفسها.

4 ـ أن تفرض الزكاة على الأراضي البيضاء داخل النطاق العمراني في المدن، وهذا الإجراء بلا شك سيسهم في زيادة إيرادات المصلحة، لكن الأهم من ذلك أنه سيؤدي إلى المنافسة في البيع وزيادة المعروض من الأراضي, ما يحد من تضخم أسعارها أو بناء هذه الأراضي وبالتالي المساهمة في توفير المساكن للمواطنين.
5 ـ أن يتضمن التقرير السنوي لمصلحة الزكاة والدخل، توقعات الإيرادات المحسوبة على أساس الافتراضات الرئيسة لأحجام الاستثمارات في القطاع الخاص، وقياس حجم التهرب التقديري للمكلفين وتوزيعه بين الزكاة والضرائب، وهذه المعلومة ستؤدي إلى إمكانية قياس مدى إنجازات المصلحة وسيكون لها دور فاعل في تحفيز المصلحة لتحسين الأداء.
ختاماً .. ليس فينا ملائكة معصومون، وموظفو المصلحة بشر كغيرهم تحركهم الحوافز وتحدوهم الحاجة، ولا يخلو المجتمع من مستثمرين يرون التهرب من الزكاة حقاً لهم، وأفراد يرون أنهم أولى بأموال زكاتهم .. هنا يكمن واجب المسؤولين في صناعة الخلطة المناسبة من الحوافز والعقوبات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي