قطاع المقاولات في جلسة عمل

كنت في رحلة عمل إلى كوالالمبور، وجمعتني بعض اللقاءات مع عدد من كبار اللاعبين في نشاط التطوير العقاري والمقاولات في ماليزيا وشرق آسيا، وتجاذبنا أطراف الحديث وأسهبت في الحديث عن رواج سوق المقاولات في السعودية, خاصة مع الميزانية المعتمدة للمشاريع عام 2010، التي بلغت رقماً غير مسبوق تجاوز ربع تريليون ريال. وكنت في حديثي مسوقاً للاستثمار الأجنبي لدخول قطاع المقاولات السعودي زعماً مني بجاذبيته، حتى فوجئت بمن يقاطعني من الحضور محللاً مشكلات سوق المقاولات المحلية بشكل دقيق وفاحص، وكان مما قاله إن سوق المقاولات لديكم فيه ثلاثة عيوب هيكلية، الأولى أن التسعير يتم بموجب نظام المشتريات الحكومية الذي عفا عليه الدهر وشرب ولا يطبق في أي من دول العالم, وأهم عيوبه ثبات الأسعار بغض النظر عن التغير في مدخلات التكاليف, خاصة المواد الخام، الثاني مشكلة التأشيرات, حيث إن نشاط المقاولات يعتمد اعتمادا أساسياً على العمالة والموارد البشرية من غير السعوديين في حين ما زالت الأنظمة لديكم تضيق الخناق على المقاولين السعوديين في تزويدهم بالتأشيرات اللازمة لأداء أعمالهم, فكيف بالمقاولين الأجانب؟ الثالث مشكلة توافر المواد الخام, خاصة الأسمنت والحديد اللتين تمثلان عصب نشاط البناء فما تنتهي أزمة إلا وتتبعها أزمة أخرى لندرة الحديد والأسمنت! حاولت إقناع الحضور بالمنافسة والمشاركة في تنفيذ مشاريعنا في المملكة، حتى بالترتيب بالشراكة مع المقاولين السعوديين أو التحالف مع المطورين العقاريين، لكن مع الأسف ذهبت محاولاتي اليائسة أدراج الرياح.
حقيقة فإنني أتفق تماماً مع هذه العيوب الثلاثة، وقد تحدثت من قبل عن موضوع مشكلة تعامل وزارة التجارة والصناعة مع مواد البناء, خاصة الحديد والأسمنت, وتحديداً لعبة منع التصدير والسماح به وأثرها في هذا القطاع. أما مشكلة نظام المشتريات الحكومية فلا أخفيكم سراً أنني أعرف كثيرا من المستثمرين ورجال الأعمال يتجنبون أي تعاملات مع الجهات الحكومية إلا إذا كان هذا التعامل بعيداً عن نظام المشتريات الحكومية العتيد الذي يعامل المقاول بكل فوقية ولا يضع أي حساب للشراكة بين المقاول وصاحب العمل, بل إنه في كثير من الأحوال يصور وزارة المالية بالغول والمقاولين بالأرانب، ويحرص على تخفيض التكاليف بغض النظر عن الجودة والكفاءة والفاعلية! أما مشكلة التأشيرات فحدث ولا حرج, فمثلنا فيها مثل النعامة التي تدس رأسها في التراب, فوزارة العمل ترفض منح التأشيرات والعمالة الأجنبية مسرحة في كل شارع، بل بزيارة تفتيشية على أي مشروع يتم إنشاؤه فإني أتحدى أن يخلو من العمالة السائبة التي يتم استخدامها من قبل المقاولين لحل هذه التركيبة صعبة الفك في خصوصيتنا العمالية!
المشكلة الرابعة التي لم يقلها أصحابنا في كوالالمبور وسأذكرها أنا نيابة عنهم وعن المقاولين الآخرين وكثير من المواطنين، أن المشاريع المربحة والأكثر جاذبية تتم ترسيتها على مقاولين محددين، وتتم الترسية خارج دائرة المشاريع بتكليف مباشر لا يخضع للمنافسة مع المقاولين الآخرين ولا ينطبق عليه نظام المشتريات الحكومية، ولا يخضع لشروط الدفع المطبقة على الآخر!
قبل أسبوع تم إعلان تنفيذ المرحلة الأولى من مشروع أكبر توسعة للحرم المكي في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وتستغرق مدة المشروع نحو ست سنوات بتكلفة إجمالية تبلغ 40 مليار ريال، وقد تم تكليف شركة بن لادن السعودية بتنفيذ المشروع، ولا شك أن اختيار شركة بن لادن لمثل هذا المشروع يعد اختيارا صائباً موفقاً، فشركة بن لادن تعد أكبر شركة مقاولات في المملكة، ولديها أكبر مخزون من الخبرة التنفيذية في المنطقة المركزية ليس حول الحرم فقط لكن حتى داخل الحرم الشريف، ولا ألوم المسؤول عند اختيار الشركة المنفذة التي ''تبيض الوجه'', خاصة إذا كانت تكلفة المشروع غير مهمة أو إذا كان العمل يتم بميزانيات مفتوحة.
مثل هذا التكليف للمشاريع الكبرى لشركة بن لادن أو لشقيقتها شركة سعودي أوجيه وإن كان هو الخيار الأنسب لهذا الحجم من المشاريع وللجودة العالية للتنفيذ وللسرعة وللإمكانات العالية لديهما، إلا أن الحديث عنه في المجالس والمنتديات بل حتى في مجالس رجال الأعمال والمسؤولين، يثير كثيرا من التساؤلات، فمن المعروف لدى الاقتصاديين التأثير السلبي للسيطرة والاحتكار في السوق، وفي المستهلك وفي الأسعار, خاصة أن معظم أعمال هاتين الشركتين يتم به التعميد المباشر دون منافسة مع الآخر، ووجود هاتين الشركتين بهذا الشكل يقتل بروز أي شركات غيرهما في قطاع المقاولات.
لإيماني التام بأن هاتين الشركتين تعدان جزءا من الثروة الوطنية التي تفاخر بهما المملكة، فإني أعتقد أن الوقت مناسب حالياً ومهيأ تماماً لتحويل هاتين الشركتين إلى شركات مساهمة عامة يتملك المواطنون الجزء الأكبر منها ويبقى للملاك الحاليين جزء من الملكية، وفي هذا الترتيب استقرار أكبر للشركتين ولسوق المقاولات وضمان أكبر للاستمرارية وطول العمر، وفيه مشاركة للمواطنين من المساهمين في العوائد المجزية التي تحصل عليها هاتان الشركتان من المشاريع الحكومية التي تتعاقد عليها مباشرة دون منافسة.
هذا الإجراء وإن تم فهو لا يعد سابقة في السوق، حيث سبق أن قامت مؤسسة النقد بإلزام شركة الراجحي للصرافة والتجارة بالتحول إلى شركة مساهمة عامة وتم الاكتتاب فيها للمواطنين من غير الملاك، وسميت فيما بعد ''مصرف الراجحي'' وتتبوأ حالياً مركز الصدارة ليس في سوق الصيرفة المحلية فحسب لكنها تنافس على المستويين الخليجي والإقليمي، ولا أشك لحظة في أن ملاك الشركة سابقاً الذين كانوا يعارضون قرار مؤسسة النقد يحمدون العاقبة اليوم، وحالتنا هذه مشابهة وإن اختلف قطاع المقاولات عن الصرافة وإن تغيرت المبررات في التحول والإدراج وتغيير الملكية والهيكلية، إلا أن الهدف الرئيس هو مصلحة الوطن والمواطن في الحالتين.
ختاماً .. لا أدعي أن في ذلك وصفة علاج، لكنها محاولة لإنقاذ هذا القطاع، ونظرة للقطاع من مراقب من الخارج.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي