مجلس الشورى والصرخة الناعسة..!!
طالب يوم الأحد الماضي أعضاء في مجلس الشورى هيئة السوق المالية بالنظر في إمكانية دخول مقيِّمين مصرح لهم لمزاولة مهنة التقييم لأسهم الاكتتاب؛ وذلك لتقدير ما أسموه علاوة الإصدار, أو القيمة الفعلية المستحقة لأسهم الشركات قبل طرحها للاكتتاب العام في السوق المالية، وطالبوا بألا تعتمد هيئة سوق المال في هذا الخصوص على ما تقدمه الشركة من معلومات؛ لما لوحظ من مبالغات في التقدير لقيمة بعض أسهم الشركات المطروحة للاكتتاب, وبالتالي حصولها على تقييمٍ عالٍ، ما يتسبب في خسائر كبيرة يتعرض لها المكتتبون بعد الشراء، وذلك حين تعود الأسهم المكتتب فيها بعد دخولها سوق التداول إلى القيمة الفعلية المتواضعة, حيث يوجد بعض الأسهم التي لا تستحق نصف قيمة علاوة إصدارها, كما جاء هذا الخبر منشوراً في صحيفة ''الاقتصادية'' في عددها رقم (6048)، وهذه المطالبة في مجلس الشورى, أو لنقل الصرخة, هي صرخة ناعس, لأنها برزت بعدما حصد الملاك المليارات, وغبن المكتتبون في مثلها..!
فلماذا لا يستيقظ المسؤول إلا على أنقاض المتضررين..؟!!
لقد انتقد كثير من الاقتصاديين الغيورين آلية التقييم الحالية, واعتبروا آلية بناء الأوامر- المعمول بها الآن - لا تحقق الدقة المطلوبة في التقييم؛ كما يدل على هذا وقائع كثيرة, حيث انخفضت القيم السوقية للأسهم المكتتب فيها بأقل من قيمة الاكتتاب بكثير, بل إن بعضها انخفض عن القيمة الاسمية النظامية؛ في إشارة من السهم نفسه بإيقاف هذا التقييم في صورته الحالية.
إن التقييم غير العادل للشيء المبيع - سواء كان سهما أو غيره - غير مقبول شرعاً, ولا نظاماً؛ لما فيه من الإضرار بالمكتتبين الأغرار, ومن هنا كان لزاماً على الهيئة المختصة أن تسعى إلى فرض آلية أكثر دقة في التقييم؛ إذ إن انخفاض القيمة السوقية عن قيمة الاكتتاب بشكل حاد عقب التداول بفترة يسيرة أمر مثير للريبة, ويعد في نظر القضاء قرينة على خطأ ما, وربما تكون آلية التقييم أحدى مبرراته.
لقد استعمل الفقهــــاء مصطلح ''ثمن المثل'' وأرادوا به القيمة الحقيقية للشــــيء المبيع, ومتى كان التقييم مبـــالغـــاً فيه وقـــع الغبن في الثمن, لأنه يؤدي إلى بيع الشيء بأكثر مما يستحقــه عــادة, وفي هذه الحالة يثبت فقهـــاً الخيـــار للمغبـــون متى ما كان المشتـري جـــاهلاً بحقيقــــة القيمة للشـــيء المبيع, ومن هنا تحدث الفقهـــاء عن ''غبن المسترسل'' والمستـرسل هو من يجهل القيمة الحقيقية للمبيع, ويشتــــري السلعة المعــروضة بقيمتها المعروضة دون مماكسة, فيدفع فيهـا أكثر مما تستحق, وقـد اختلف الفقهـاء في حكــم ثبوت الخيار للمستــرسل على قولين:
الأول: أنه لا يثبت الخيار للمسترسل؛ لأن المشتري مفرِّط في التحقق من القيمة العادلة, وكان الواجب عليه التثبت في القيمة, والتأكد من حقيقتها.
الثاني: أنه يثبت له الخيار؛ لأنه غبنٌ حصل لجهله بحقيقة قيمة المبيع, وهذا القول هو الأرجح؛ لما جاء في الحديث بسند ضعيف (غبن المسترسل حرام), ولما في إثبات الخيار للمشتري المغبون من رفع الظلم عنه, وتحقيق العدالة. ولو قلنا بثبوت الخيار للمكتتب المغبون, فكم من مكتتبٍ سيثبت له الخيار؟!! لا سيما أن المكتتبين قد وضعوا ثقتهم الكاملة بالجهة المنوط بها مهمة الإشراف على عملية التقييم.
لا ريب أن الاستعانة بخبراء مقيمين, من أصحاب الثقة والأمانة, ومن أهل الخبرة والمعرفة, من الأساليب الناجحة, ومن هذا الباب ما قرره نظام الشركات في مادته الستين حول الحصص العينية, ونصها: (إذا وجدت حصص عينية أو مزايا خاصة للمؤسسين أو لغيرهم عينت الإدارة العامة للشركات - بناء على طلب المؤسسين - خبيراً أو أكثر, تكون مهمتهم التحقق من صحة تقييم الحصص العينية, وتقدير مبررات المزايا الخاصة وبيان عناصر تقييمها). والحصص العينية المشار إليها في النظام تشمل العقار والمنقول, فالمؤسس إذا أراد أن يسهم في الشركة المساهمة بحصص عينية ثابتة أو منقولة, فإنه لا بد من تقييمها من خبير؛ وذلك لئلا يتضرر المؤسس بتقييم منخفض عن القيمة الحقيقية, ولئلا يتضرر المكتتبون بتقييم غالٍ, مجحف بهم, فيكون تقرير الخبير أسلوباً لفرض ثمن المثل, بل وتشدد المنظم وألزم عرض هذا التقييم على الجمعية التأسيسية لإقراره, وهو تشدد في محله.
والواقع أن فقهاءنا الأجلاء لم يتحدثوا فقط عن ثمن المثل, بل قرروا في كتبهم صوراً أخرى من هذا الباب, ومنها على سبيل المثال لا الحصر: ''أجر المثل'', وأرادوا به العوض المساوي للمنفعة المعقود عليها, وذلك في بعض الحالات التي تقتضي الرجوع إلى أجر المثل, كل هذا من أجل تحقيق العدالة بين أطراف التعاقد.