إنقاذ اليونان ليس سوى البداية

هذه أوقات عصيبة تدفع إلى اليأس وإلى اتخاذ إجراءات يائسة. بعد أشهر من التأجيل المكلف خرجت منطقة اليورو بصفقة ضخمة لمساندة اليونان. ومع تدخل صندوق النقد الدولي، بناء على طلب من ألمانيا، حصلت اليونان على بعض الموارد الإضافية وعلى برنامج أفضل. لكن هل ينجح ذلك؟ للأسف لدي شكوك هائلة.
لندرس أولاً برنامج الإنقاذ. الخطوط العريضة لهذا البرنامج هي أنه صفقة مقدارها 110 مليارات يورو (هذا المبلغ يزيد قليلاً على ثلث الديون المستحقة على اليونان)، منها 30 مليار يورو من صندوق النقد الدولي (وهو مبلغ يزيد كثيراً على المبالغ المسموح بها في العادة)، والبقية من منطقة اليورو. هذه المبالغ تكفي، عند الضرورة، لإخراج اليونان من السوق لأكثر من سنتين. بالمقابل وعدت اليونان بتخفيض العجز وتراكم الديون بنسبة 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى ثلاث سنوات، إضافة إلى إجراءات متخذة في السابق، بهدف الوصول بنسبة العجز إلى 3 في المائة بحلول عام 2014، أي خفض النسبة السابقة، البالغة 13.6 في المائة في 2009. ومن المقرر أن تحقق التخفيضات في الإنفاق الحكومي توفيراً نسبته 5.25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي على مدى ثلاث سنوات. وسيتم تخفيض الرواتب التقاعدية والأجور، ومن ثم تُجمَّد لمدة ثلاث سنوات، مع حظر دفع العلاوات الفصلية. ومن المقرر أن تحقق الإجراءات الضريبية 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وحتى مع هذه الإجراءات، من المتوقع أن يصل الدين العام إلى ذروة تبلغ 150 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
هذا البرنامج، من عدد من الاعتبارات المهمة، أقل افتقاراً إلى الواقعية بكثير من البرنامج السابق المقترح من البلدان الأوروبية. فقد اختفى الوهم القائل إنه سيكون هناك تقلص اقتصادي معتدل هذا العام، تتبعه عودة إلى النمو المطرد. البرنامج الجديد على ما يبدو يتصور هبوطاً تراكمياً في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8 في المائة، رغم أن التوقعات التي من هذا القبيل، بطبيعة الحال، تتسم باللبس إلى حد كبير. بالمثل كانت الخطة السابقة مبنية على الافتراض القائل إن بمقدور اليونان تخفيض العجز في ميزانيتها ليصبح أقل من 3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بحول عام 2012. لكن الخطة الجديدة تحدد عام 2014 على أنه العام المستهدف.
هناك عاملان آخران جديران بالذكر فيما تم التوصل إليه. الأول هو أنه لن تكون هناك إعادة هيكلة للديون، والثاني أن البنك المركزي الأوروبي سيعلق شرط الحد الأدنى من المرتبة الائتمانية، وهو الحد الذي يجب أن تتمتع به الموجودات المدعومة من قبل الحكومة اليونانية في عمليات السيولة داخل البنك، وبالتالي يعطي سبيلاً للإنعاش أمام البنوك اليونانية ذات الوضع الضعيف.
السؤال الآن هل يبدو هذا البرنامج معقولاً، سواء بالنسبة لليونان أو بالنسبة لمنطقة اليورو؟ الجواب نعم ولا في كلتا الحالتين.
لنبدأ باليونان. خسرت اليونان الآن قدرتها على الاستفادة من الأسواق. معنى ذلك أن البديل عن الموافقة على هذه الخطة (سواء كان من الممكن أو غير الممكن تنفيذها) سيكون هو الإعسار والعجز عن السداد. في هذه الحالة لن يكون على اليونان أن تدفع فوائد على الديون، لكن سيتعين عليها على الفور إغلاق عجزها الأولي في المالية العامة (أي العجز الموجود قبل دفعات الفوائد)، بنسبة 9 ـ 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وسيكون ذلك إجراءً يفوق كثيراً في وحشيته إجراءات التشدد التي وافقت اليونان عليها الآن. من جانب آخر، حين تصبح اليونان عاجزة عن السداد فإن النظام البنكي سينهار. إذن اليونان على حق في أن تعِد بالمستحيل، في سبيل كسب الوقت للتخلص من عجزها الأولي على نحو أكثر سلاسة. مع ذلك من الصعب أن نصدق أن بمقدور اليونان أن تتجنب إعادة هيكلة ديونها. أولاً، لنفترض مؤقتاً أن كل شيء سيسير وفقاً للخطة المرسومة. لنفترض، كذلك، أن متوسط الفوائد على الديون اليونانية طويلة الأجل سيصبح متدنيا عند مستوى 5 في المائة. في هذه الحالة لا بد أن يبلغ العجز الأولي لليونان 4.5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، مع دخل يعادل 7.5 في المائة من الناتج يخصص لسداد دفعات الفوائد. هل سيتحمل الشعب اليوناني هذا العبء سنة متعِبة بعد أخرى منهِكة؟ ثانياً، حتى توقعات صندوق النقد الدولي تبدو متفائلة من وجهة نظري. بالنظر إلى التقشف الهائل المزمع تطبيقه في المالية العامة، ومع غياب الإجراءات الهادفة إلى معادلة الآثار المترتبة على سعر الصرف أو السياسة النقدية، من المرجح أن تجد اليونان نفسها في ركود طويل. هل يكفي الإصلاح الهيكلي لإخراجها من المأزق؟ الجواب لا، إلا إذا تمكنت اليونان من تحقيق هبوط ضخم في التكاليف الاسمية لوحدة العمل، على اعتبار أنها تحتاج إلى اندفاع طويل الأمد في صافي الصادرات للتعويض عن التشدد في الإنفاق العام. سيكون البديل هو تحقيق توسع هائل في العجز المالي للقطاع الخاص في اليونان. وهذا يبدو أمراً غير معقول. فضلاً عن ذلك، إذا هبطت الأجور الاسمية بالفعل، فإن عبء الدين سيصبح أسوأ من التوقعات.
يقول ويليم بويتر، كبير الاقتصاديين في بنك سيتي جروب حاليا، في بحث جديد رائع، إن البلدان الأخرى ذات الدخل العالي، خصوصاً كندا (1994 – 1998) والسويد (1993 – 1998) ونيوزيلندا (1990 – 1994)، أفلحت في تخفيض العجز وتراكم الديون. لكن الظروف كانت في تلك البلدان أفضل بكثير من وضع اليونان. الآن يُطلَب من اليونان أن تقوم بما قامت به أمريكا اللاتينية في الثمانينيات. وأدى ذلك إلى عقد ضائع، وكان المستفيدون هم الدائنون الأجانب. فضلاً عن ذلك، تُدفَع الآن مبالغ للدائنين كي يهربوا، فمن الذي سيحل محلهم؟ هذه الصفقة ستفشل بالتأكيد في إعادة اليونان إلى السوق على أسس وأحكام مقبولة، خلال بضع سنين. ستكون هناك حاجة إلى مزيد من الأموال إذا اتخذ القرار غير الحكيم باستبعاد إعادة هيكلة الديون.
بالنسبة للأعضاء الآخرين في منطقة اليورو، فإن البرنامج يحول دون حدوث صدمة مباشرة على الأنظمة المالية الهشة. القصد العلني من البرنامج هو إنقاذ اليونان، لكنه بصورة غير علنية يهدف إلى إنقاذ البنوك. ومن غير الواضح أبداً إن كان البرنامج سيساعد البلدان الأعضاء الأخرى الواقعة الآن في خط النار. ويستطيع المستثمرون بالتأكيد أن يستنتجوا أن نطاق الصفقة اللازم لليونان الصغيرة، والصعوبة الهائلة في الموافقة عليها، خصوصاً في ألمانيا، يوحي بأنه لن يكون من السهل التوصل إلى صفقات إنقاذ أخرى. وهناك احتمال كبير أن البلدان الأعضاء الأخرى في منطقة اليورو ربما ينتهي بها المطاف إلى أن تُترك وحدها دون معين. لكن لا يوجد بلد منها يعاني من أوضاع سيئة في مثل سوء الأوضاع في اليونان، ولم يُظهِر أي منها القدر نفسه من الفساد الإداري. لكن عددا من تلك البلدان تعاني حالات عجز غير قابل للاستدامة في المالية العامة ونِسَب دين متصاعدة بسرعة. من هذا الجانب، وضع تلك البلدان لا يختلف عن وضع بريطانيا أو الولايات المتحدة، لكنها تفتقر إلى الخيارات نفسها في مجال السياسة المالية.
باختصار، الحكاية لم تأت على نهايتها بعد.
بالنسبة لمنطقة اليورو، هناك درسان واضحان. الأول هو أن أمامها خيار واضح، إما أن تقبل بالعجز عن سداد الديون السيادية، بصرف النظر عن الفوضى والاضطراب اللذين سيحلان نتيجة لذلك، أو أنها تخلق أموالاً كافية للتكيف مع التعديل في الاقتصادات المسحوقة. ويوصي بويتر بإنشاء صندوق يدعى صندوق النقد الأوروبي، بقيمة ألفي مليار يورو. الدرس الآخر هو أن التعديل في منطقة اليورو لن ينجح دون إدخال تعديلات مقابِلة في البلدان الأساسية. وإذا كانت منطقة اليورو ترغب في الحياة قريباً من الطلب الإجمالي الراكد، فإنها ستصبح ساحة للتنافس على انخفاض التضخم على أساس أن يربح بلد على حساب بلد آخر، مع الاعتماد المتزايد على الأسواق العالمية كوسيلة لتنفيس الفائض. ولن تكون هذه النتيجة مريحة لأي بلد. الأزمات التي تتكشف أمامنا الآن تؤكد حكمة أولئك الذين اعتبروا اليورو مغامرة ذات مخاطر عالية. هذه الصدمات ليست مفاجِئة إلى درجة كبيرة. بل على العكس، كان من الممكن توقعها. والخوف من أن توحيد وضم هذه البلدان التي تختلف كثيراً فيما بينها من شأنه زيادة التوتر وليس تخفيفه، يبدو كذلك أنه ثبتت صحته الآن. انظر إلى اندفاع المشاعر المعادية لأوروبا داخل ألمانيا. مع ذلك، بعد أن أصبحت منطقة اليورو حقيقة واقعة، لا بد أن تنجح. محاولة إنقاذ اليونان ليست إلا بداية الحكاية. فلا يزال من اللازم عمل الكثير، من حيث الاستجابة للأزمة المباشرة ومن حيث إصلاح منطقة اليورو نفسها، في المستقبل غير البعيد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي