يوسف العبقرية الاقتصادية .. دروس مستفادة
ينظر الناس إلى سيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ على أنه أجمل وأوسم من خلق من البشر على مر التاريخ، وهذه حقيقة ذكرها الله ـ سبحانه وتعالى ـ عندما وصفت امرأة العزيز يوسف ـ عليه السلام ـ بأنه ليس بشراً, بل ملك كريم، وقول رسولنا الصادق حيث وصف يوسف ـ عليه السلام ــ بأنه أوتي شطر الحسن من الجمال، لكن هذه النظرة القاصرة لكثير من الناس لسيدنا يوسف ـ عليه السلام ـ ركزت على الجانب الشكلي وأغفلت الجوانب الأخرى لشخصيته حيث الورع والتقوى ثم الإرادة والحكمة، إضافة إلى العلم بعلوم الدنيا, ناهيك عن معجزته في صدق التأويل.
عندما نقرأ سورة يوسف في القرآن الكريم يمر كثير منا مرور الكرام على إحدى عبقريات الإدارة الاقتصادية الحكومية في وقت الأزمات، لم يكن يوسف ـ عليه السلام ـ خريج هارفارد أو أكسفورد، إنه أكبر وأجل، إنه هبة الله لشعب مصر وما جاورها، لقد كان بالتأكيد إحدى المعجزات الإنسانية في الاقتصاد التي يجب أن تُدرس في جامعات الدنيا.
لقد كانت رؤيا ملك مصر البارقة التي نقلت يوسف ـ عليه السلام ـ من غياهب السجون إلى أروقة الحكم، فنظرة يوسف الربانية لرؤيا الملك كانت الإشارة الأولى للصلاح والتقوى, وذلك بقوة التعبير ومنطقية التأويل، لكن يوسف ـ عليه السلام ـ تجاوز الرؤيا وتأويلها فوضع القواعد الأساسية في علوم الإدارة والاقتصاد والزراعة لإنقاذ المملكة المصرية من الفناء جوعاً وأعدها لمواجهة الأزمة الغذائية المرتقبة في ذلك الوقت.
لقد كان تأويل يوسف ـ عليه السلام ـ للرؤيا بقدوم سبع سنوات من الأمطار والازدهار الزراعي وكثافة الإنتاج، التي ستتبعها سبع سنوات من الجدب والقحط وانقطاع المطر، لم يكتف النبي الرحيم وهو في السجن ويعاني الظلم بالتفسير دون النصيحة، فقدم نصيحته التي تعبر عن الفكر الاقتصادي الخلاق والعلم بالزراعة ودقائقها حين قدم لهم وصفة النجاة ونصحهم بالاقتصاد وعدم الإسراف في الصرف والاستهلاك على الرغم من كثافة المحصول، وهذا سلوك مناف للفطرة وللطبيعة البشرية أصلاً, حيث يكون السلوك في أعلى معدلاته الاستهلاكية في حالات الرواج، كما أشار عليهم بالاحتفاظ بالمخزون في سنابله, وذلك أبقى له وأطول عمرا وأبعد عن الفساد الذي ربما يطرأ عليه، لقد كانت عبقرية يوسف ـ عليه السلام ـ الفذة في التجهيز للأزمة والاستعداد لعلاجها بدأت قبل سبع سنوات من وقوعها.
كما يلقننا يوسف ـ عليه السلام ـ درسا في كرم الأخلاق عندما أجاب السائل وفسر الرؤيا دون منة أو شروط مسبقة أو قائمة للطلبات، درس آخر يلقننا إياه في الكرامة والعزة وطلب إعادة الاعتبار عندما امتنع عن إجابة طلب الملك بالذهاب إليه حتى يتحقق الملك والبلاط والجماهير من براءته ونزاهته من التهم الملفقة عليه، وإعلان ذلك للملأ, وأن السجن له كان ظلماً وعدواناً. وقال في ذلك الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ''لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان، لو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشترط أن يخرجوني، ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له، حين أتاه الرسول (يقصد رسول الملك لإخراجه) ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب، ولكنه أراد أن يكون له العذر''.
قاعدة أخرى يعلمنا إياها يوسف ـ عليه السلام ـ وهي طلب المسؤولية، عندما قال ''اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم''، ولم يطلب يوسف ـ عليه السلام ـ هذا الطلب إلا بعد أن علم يقيناً أن الملك سيجعله من خاصته وأهل مشورته عندما قال الملك ''ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين''، وهي لفتة رجولة من يوسف ـ عليه السلام ـ بطلب العمل، ولم يطلب أي عمل، لكنه طلب المساهمة في مواجهة الأزمة التي ستجتاح البلاد، وهذا الطلب يؤكد إيمان يوسف بالرؤيا التي فسرها للملك، ولم يطلب يوسف ـ عليه السلام ـ طلبه ذاك إلا بعد أن منحه الملك الثقة الملكية بعد ظهور الآيات الدالة على فضل يوسف ـ عليه السلام ـ من حيث الأمانة والخلق والفضل والصبر والقوة إضافة إلى العلم الغزير ليوسف ـ عليه السلام ـ الذي ظهر جلياً من خلال تأويله لرؤيا الملك، كما أن علم يوسف بقدراته وثقته الكبيرة بنفسه على تولي المسؤولية أهله لطلب المنصب، ومن لها غير يوسف القوي الأمين.
لقد كان يوسف ـ عليه السلام ـ أول من وضع قواعد الادخار الحكومي الموثق على مر التاريخ، وأول من أشار إلى الدورات الاقتصادية من حيث الرواج والكساد، فيقيس كثير من المنظرين هذه الدورات بمدة سبع سنوات كعمر تقديري متوقع للدورة الواحدة.
كيف نستفيد من هذه القصة التاريخية الموثقة؟ وقفات سريعة مع الدروس المستفادة:
1- إن الاستعداد للعواصف يسبق حدوثها، ويكون التوقع والاستشراف أهم من العلاج، وليس من الحكمة أن يكون استشراف المستقبل بالرؤى والأحلام، خاصة مع توافر الأدوات المساندة في التوقع.
2- إن علاج الأزمات يجب أن يتم الشروع فيه قبل وقوعها، حيث تتوافر الأدوات، وإلا ما الفائدة من الرغبة في بدء العلاج عندما لا توجد الموارد المساندة لذلك، لذلك فإن الاقتصاد والتوفير يجب أن يكون سلوكاً أصيلاً, حيث الإسراف هو الاستثناء.
3- أهمية تولي القوي (علماً ومعرفة) والأمين (خلقاً وأمانة وإخلاصاً) المسؤوليات العامة.
4- إن الفرج يأتي مع الصبر، حتى لو طال الأمد ما دامت الحبال موصولة مع الله.
5- إن المجرم سيفتضح أمره حتى لو بعد حين، خاصة إذا كان من نوع ظلم العباد.
6- إن مفسري الرؤى والأحلام لهم مواصفات ربانية من أهمها الدين والخلق والصلاح والعلم، ولا يفسر الرؤى كل من هب ودب.
أخيرا .. فإن من أهم الدروس المستقاة من هذه القصة هي إثارة الفكر والرأي حول كيفية الاستفادة من الطفرة التي تعيشها المملكة حالياً ويحسدنا عليها العالم أجمع، حيث إن الأيام دول، ومثلما نعيش اليوم طفرة عارمة، فقد عشنا بالأمس أزمة مالية طويلة وقاسية، هل تستمر هذه الطفرة سبع سنوات أم تزيد أم تقل؟ العلم عند الله، المهم أن نصنع من مواردنا الحالية (وهي موارد ناضبة) ما يقينا شر المستقبل، طمعاً في دعاء الجيل القادم لنا بالرحمة، بدلا من دعوة علينا بالهلاك.