أبناؤنا في الخارج
سألت صديقي العائد للتو من بعثة قصيرة للدراسة في إحدى الدول الأجنبية عن حال وأوضاع طلابنا وطالباتنا في ذلك البلد البعيد والمجتمع المغاير لنا تماما, جاء جوابه مفرحا في بدايته ومتفائلا وهو يذكر لي وبكل فخر نماذج مشرفة لشباب سعودي من الجنسين, شباب يحقق تفوقا علميا, يتصف بالجدية في التحصيل والدراسة, ويحظى بتقدير وإعجاب معلميهم بما يتصفون به من حرص ومثابرة على التحصيل العلمي, وأن كثيرا منهم أتقن اللغة الإنجليزية واجتاز اختباراتها الصعبة في مدة قياسية, بسبب جديتهم وتفرغهم شبه التام للدراسة والتحصيل والتعلم.
هذه النماذج المشرفة لم تغرها وتبهرها حياة الصخب والانفتاح ولا توافر كل وسائل الترفيه والمتع, ليس لأنها منغلقة ومتزمتة ممن لا يرى الدنيا إلا أبيض أو أسود, بل مشاركة ومتفاعلة مع تلك الحياة, فتجدهم يشاركون في أنشطة الجامعات ويحضرون حفلاتها ولقاءاتها الطلابية وغير الطلابية, لكن ضمن حدود وانضباط ديني وأخلاقي رفيعين.
ولكن .. وآه من لكن هذه .. نقل لي ذلك الصديق نماذج أخرى لشباب (يفشل), أو كما نقول في أمثالنا العامة ''يكسر الوجه'', نماذج سلبية أغرتها الحياة المنفتحة, انجذبت بقوة وبصورة شبه مسلوبة الإرادة لحياة الصخب والترفيه والمتع, فحولوا حياتهم هناك من حياة طلاب علم إلى طلاب سياحة ووناسة, يصرفون جل وقتهم في السهر والفسح والترفيه والتمتع بحياة الانفتاح الكامل, دونما شعور بالمسؤولية ولا إحساس بما ابتعث من أجله, بل إن هناك فهما مغلوطا لدى هؤلاء عن أهداف الابتعاث, ومن هذا الفهم المغلوط وربما التبريري أنه يمكنهم إتقان اللغة من الشارع وبالاحتكاك المباشر بالحياة والناس, وبعضهم لديه نظرة محدودة تتمثل في أن جل غايته إتقان اللغة, فاللغة الإنجليزية وإتقانها تكفيه عن أي مؤهل أكاديمي في سوق عمل لدينا جعلت إتقانها المتطلب الرئيس لشغل أفضل الوظائف, وهو ما انعكس سلبا على مستوى تحصيلهم العلمي المتأخر عن أقرانهم الجادين, والأهم من ذلك تقديمهم صورة غير إيجابية للدارس السعودي, ومع أن هذه النماذج تمثل أقلية, إلا أنها تظل نسبة مؤثرة في غيرها من ناحية أخذها فرصة ابتعاث هناك ممن هم أجدر بها منهم, ومن ناحية أخرى حين يعودون لا يعودون إلا بخفي حنين ليس في جعبتهم إلا إتقان لغة الشارع غير العلمية وأنماط ثقافية سلبية.
قضية مبتعثينا في الخارج بالغة الأهمية, ومسؤولية علينا تحملها والتصدي لها, إلا أن نأخذ شبابا (خاما) ونرمي بهم في يم تلك المجتمعات المنفتحة دون متابعة دقيقة, فنحن وإن كنا نشد على أيدي تلك النماذج المشرفة, علينا أيضا أن نضرب على اليد الأخرى السلبية من خلال متابعة تحصيلها العلمي وانضباطها السلوكي, وعدم تركها تغوص في أوحال انفتاح يسقط فيه كل من لديه هشاشة ثقافية, وهذه أولا مسؤولية وزارة التعليم العالي وملحقياتها التعليمية المنتشرة في كل الدول تقريبا, وهي تقوم بدور كبير ولا شك, وتشكر على ما تؤديه من واجبات وجهد ورعاية للمبتعثين, لكن هناك حاجة إلى استكمال جهودها لمتابعة أوضاع وأحوال تلك النماذج السلبية, وأن يعاد فورا كل من تسجل عليه ملاحظات سلوكية وتعليمية سلبية, ليدرك الجميع أن هناك من يراقب ويتابع, فالمبتعث عليه أن يشعر ويدرك أنه أرسل لمهمة محددة وهي التحصيل العلمي, فبرنامج الابتعاث الخارجي الذي يكلف الدولة مبالغ طائلة وجهودا إدارية مكثفة, عملية استثمار للعنصر البشري من أجل التسلح بالعلم والمعرفة من عدة مصادر في دول تتوافر فيها جودة تعليم, حتى يعودوا للمساهمة بفاعلية في برامج التنمية المستمرة والطموحة.
يقول هذا الصديق إن معظم تلك النماذج السلبية قدموا من بيئات ريفية بسيطة, وجزء كبير منهم من صغار السن الذين لا يملكون وعيا ثقافيا كافيا يحميهم من تبعاث ما يسمى ''الصدمة الحضارية'', وهذا نتيجة لفتح باب الابتعاث على مصراعيه دون معايير شخصية لتحديد الصالح من غيره للابتعاث, فهناك ـ ومع الأسف ـ نوعيات أسيء اختيارها وأتيحت لها فرصة ابتعاث وهي ليست مؤهلة لا ثقافيا ولا علميا وتوعويا, وأستشهد بذلك على تعليق لسعودية مبتعثة من مانشيستر على مقال لي في ''الاقتصادية'' بعنوان ''مراجعة منهجية للابتعاث'' نشر بتاريخ 18 صفر 1431هـ وهي تقول ''قابلت العشرات من المبتعثين منهم من يقول خلاص زهقت بأرجع, تمشينا واستأنسنا وعرفنا شوية لغة, غير حالات مؤلمة لشباب نزعوا خمار الدين بتاتا فيأتي للمعهد وهو في حالة يرثى لها, أراهم بعيني, عمر الواحد منهم 18 سنة كيف هو متلهف لكل شيء''.