النمو الاقتصادي العالمي ولائمة النفط!
لثلاثين سنة خلت، قلما مر يوم من دون ظهور إعلامي للنفط ومن له علاقة به، سواء كان حديثاً عابراً، أو تصريحاً لمسؤول أم تحليلاً لتوقعات تخص الإنتاج أو الأسعار، وبذلك تكون اجتماعات ''أوبك'' استنفاراً لوسائل الإعلام، والكل يترقب بحذر ما ستؤول إليه نتائج الاجتماعات. وقد لعبت وسائل الإعلام الغربية بجميع أنواعها في الترويج للأثر المستقبلي السلبي لأسعار النفط على الدول الصناعية، ومن ثم على تدفق التجارة الدولية وانسيابيتها، مؤكدة أن أسعار النفط قد أحدثت أثراً كبيراً في بنية الاقتصاد العالمي الهيكلية، وأوردته موارد التضخم. يمكن توضيح الاحتياج العالمي من النفط من خلال حسابات بسيطة تعارف عليها أهل الخبرة، وهي حاصل قسمة النمو في طلب النفط العالمي على النمو الاقتصادي العالمي، حيث يرى البعض أن هذا النمو قد انخفض وبشكل ملموس في العشر السنوات الماضية لأسباب متفاوتة، حسب تقديراتهم، وقد أسهم في هذا الانخفاض ارتفاع أسعار النفط، إضافةً إلى التوجه الجاد للبحث وبقوة عن بدائل مناسبة من ناحية الكفاءة في الاستخدام ورخص الثمن. هذا الانخفاض الملموس ليس بشكله المُطلق فقد صاحبه ارتفاع هائل في النمو السكاني مع الحاجة إلى الطاقة مع صعود نجم بعض الاقتصادات النامية كالصين والهند ودول جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط. من ناحية أخرى، ترى بعض التوقعات أن الطلب الكُلي على النفط سيصل إلى ذروته عام 2020 ليكون بين 95 و110 ملايين برميل يومياً، وهو بالتأكيد أعلى من مستويات الطلب الحالية. المُتتبع لتقارير الهيئات الدولية المعنية بالنفط من خلال مختلف وسائل الإعلام، يلحظ التفاوت في تقديرات الطلب على النفط كنتيجةً لزيادة النمو بنسبة 1 في المائة للاقتصادات العالمية، فمثلاً أوبك تراه 0.31 في المائة، بينما وكالة الطاقة الدولية تتوقعه 0.47 في المائة، وإدارة الطاقة الأمريكية تراه 0.51 في المائة. وفي تقويمنا لهذه التقديرات يظهر أن تقديرات ''أوبك'' أكثر من واقعية وعقلانية كون التقديرات السابقة خلاف ''أوبك'' يشوبها نوع من التحيز والتضخيم. ومن المعلوم أن ارتفاع أسعار النفط الخام المبالغ فيه قد يكون لها ذيول سلبية على النمو العالمي، وإن لم يتم إثبات ذلك بشكل دائم وحاسم، مع العلم أن النمو الاقتصادي العالمي لعب دوراً رئيسياً فيها، فعندما ترتفع أسعاره ترتفع فاتورة واردات الولايات المتحدة على سبيل المثال، ومن بعد زيادة العجز في الميزان التجاري، ومن ثم هبوط القوة الشرائية للدولار، وهذا بدوره يؤثر إيجاباً في أسعار النفط. ولا غرو في أن يرتفع سعر النفط، فالعلاقة متبادلة بين أسعار النفط وأسعار السلع والخدمات والمعادن. فالنفط كمُدخل يؤثر بالتأكيد في تكاليف الإنتاج، ومن ثم أسعار المنتجات النهائية، وبالتالي ينعكس على شكل ارتفاعات في أسعار النفط لتعويض مُنتج هذه السلعة، عما يتكبده من تكاليف سعرية إضافية لوارداته. ناهيك عما يحصل وقت انخفاض الأسواق المالية العالمية وما تفضي إليه من زيادة الاستثمارات المُضاربية على النفط الخام، وبالتالي التأثير في أسعاره، حيث كان النفط أحد الملاذات الاستثمارية الآمنة للمستثمرين على المدى القصير لقناعاتهم بأن النفط سيعاود ارتفاعاته إن عاجلاً أم آجلاً.
وعلى الرغم من تحسن كفاءة استخدام النفط (ترشيد استهلاكه) إلا أن بوادر التحسن في النمو العالمي ستزيد من وتيرة الطلب عليه وبالتأكيد ستنعكس إيجاباً على الأسعار، فبوادر تحسن الاقتصادات العالمية الصناعية، وارتفاع وتيرة النمو للدول الآسيوية الرئيسية بعامة سيدفع مزيداً من الطلب العالمي على النفط، وبذلك فالأسعار مرشحة لمزيد من الارتفاعات، وبذا ستكون دول ''أوبك'' في موقف لا تُحسد عليه إما الاتفاق من أجل الدفع بخططها السعرية والإنتاجية للأمام أو الاختلاف، ونتيجته ضعف تماسك القرارات السعرية. الخطط البعيدة للدول الصناعية بخاصة والآسيوية بعامة هو ضمان إمدادات آمنة ومستقرة وكافية لتغطية حاجات نموها الاقتصادي، وهذه قد تكون أكثر أهميةً من التفاوض على أسعار معينة، والدليل على ذلك هرولة كثير من دول آسيا باتجاه عقد صفقات وعلاقات تجارية ونفطية مع الدول المنتجة للنفط، وبالأخص الدول العربية الخليجية. على أية حال، ليس من السهولة نفي تهمة سلبية أسعار النفط المرتفعة على النمو العالمي، لكن الحقائق تقول إن التأثير ضعيف، ولا يكاد يذكر، وفي فترات سابقة، حيث كان التداخل واضحاً بين السياسات المالية والنقدية الداخلية مع الأهداف الخارجية للدول الصناعية. فتضخيم وتهويل الدور السلبي للنفط على النمو الاقتصادي للدول المتقدمة بخاصة والدول النامية بعامة، يُثير التساؤل حول مساهمة مداخيل دول ''أوبك'' في النمو الإيجابي للاقتصاد العالمي- على اعتبار أنها إعادة توزيع للدخول- وفيه تشويه للصورة الجميلة للمساعي الدولية العقلانية، التي تحمل رايتها المملكة من خلال ''أوبك''، حيث تؤكد فيها ضرورة ضمان إمدادات آمنة لمن يطلبه أياً كان، مع تحقيق العدالة في الأسعار بحيث تعكس أهمية النفط، مقارنة بالبدائل وحاجة المنتجين إلى دخول تضمن الاستثمار في هذا القطاع، وتحقيق الاستقرار السياسي من خلال المحافظة على التوازن بين العرض والطلب، على الرغم من قناعتنا بأن عوامل العرض والطلب وحدها لن تحقق السعر العادل بأي حال من الأحوال.