أزمة الديون اليونانية تكشف الممارسات التنظيمية في القطاع المالي

إن تحول أزمة الاقتصاد العالمي من خلال تسليط الضوء على قصور ''الحلول السريعة'' قد جدد الانتباه لأهمية قضية التنظيم المالي. ومع أنه قد تم التطرق إلى القضايا التنظيمية منذ بداية الأزمة، إلا أن التقدم الملموس كان محدوداً للغاية، جزئياً لأن الاستجابات السياسية العنيفة تجاه الأزمة قد قللت الحاجة المتصورة لاتخاذ إجراءات فورية عن طريق إحداث انتعاش مبدئي. ومع ذلك، فقد اتضح الآن، أن عدم اتخاذ إجراءات هو خيار غير مقبول، ويعود السبب جزئياً إلى أن حدة الأزمة قد زادت من التكاليف السياسية للأعمال بشكل ملحوظ كالعادة. ومع ذلك، لا يزال الخطر الأساسي هو الإصلاح الذي تدعمه السياسة. وبالرغم من ذلك، فليس المهم هو التنظيم بسبب الغضب أو الانتهازية السياسية.
وقد أبرزت المرحلة الجديدة من الأزمة العالمية أهمية الممارسات التنظيمية الواضحة والمستدامة. وفي النهاية، فإن ظهور كارثة الديون الأوروبية كانت عبارة عن فشل ذريع في الإشراف والتنفيذ. والعالم يحتاج إلى قواعد ملموسة يتم تنفيذها بشكل مناسب، ومراقبتها بدقة، وتنفيذها بفاعلية. وقد كان أحد أسباب الأزمة هو تفاوت التنظيم. وقد تمكنت أجزاء من القطاع المالي من النمو على نطاق غير مسبوق إلى جانب الإشراف غير الرسمي. وفي الوقت ذاته، فالمبادرات التنظيمية تبقى في بعض الأحيان حبرا على ورق، بدل أن تصبح أسساً لتحقيق التنمية المستدامة.

الضغوط السياسية

في النهاية، يبدو أن الوضع قد تحول إلى نقطة غير فيها المنظمون سلوكياتهم وتجاوب فيها الساسة مع التشريعات الجديدة. وقد تحقق عدد من الخطوات المهمة في الأسابيع الأخيرة: وتوجيه الإدارة الأمريكية لإعادة كتابة اللوائح التنظيمية قد اكتسبت زخماً كبيراً، ويبدو أن الأصوات اللازمة في الكونجرس لإجراء إصلاحات كبرى قد ظهرت بالفعل. وبالنسبة للديمقراطيين، يبدو أن الإجراءات الحاسمة حول الإصلاحات التنظيمية في الوقت الراهن تعد وسيلة لاستغلال الزخم الذي يصحب السباق المحموم نحو الانتخابات التي تجرى في شهر نوفمبر.
إن المشرف الألماني على القطاع المالي ''هيئة الرقابة المالية الاتحادية – بافين'' قد فرض قيودا ملموسة أحادية الجانب على تعاملات المضاربة.
وتتضمن هذه الخطوة فرض قيود جزئية على ما يسمى بالبيع على المكشوف، وهي بيع السندات من قبل أشخاص ليسوا ملاكها أو مقترضيها. وتحد أيضاً من المضاربات في السندات الحكومية الأوروبية باستخدام مقايضة العجز عن سداد الائتمان. الحكومة البريطانية الجديدة لديها الفرصة وربما الحاجة لاستخدام الإصلاحات التنظيمية كوسيلة لتمييز نفسها عن الحكومات السابقة.
إضافة إلى السعي لتعزيز بنك إنجلترا، فهي تفكر بجدية في الفصل الرسمي بين الاستثمارات والخدمات المصرفية للأفراد.
ومع تفاوت بعض هذه الخطوات، فلديها إمكانية دفع النقاش إلى مستوى جديد من خلال إجبار الآخرين على الرد والاستجابة. وأثارت هذه التحركات الألمانية قلقاً مبرراً لدى الشركاء الأوروبيين للبلاد، إلا أن هناك حاجة عالمية أوسع لتجنب الاختلافات والموازنة التنظيمية - لخطر تحويل المنتجات والمؤسسات بسبب الاختلافات التنظيمية. ومع ذلك، فمنشأ تلك الخطوات لا يزال يمثل سيفاً ذا حدين. فالغضب الشعبي هو شرط مسبق ضروري للتغيير الفعال لكنه أيضاً قد يؤدي بسهولة إلى إصلاحات غير شاملة أو لم يتم التفكير فيها ملياً. وفي النهاية، فلا ينبغي أن يكون الغرض الأساسي للإصلاح المالي هو تهدئة الغضب الشعبي بل لضمان الاستقرار والتنمية المستدامة للقطاع المالي و الاقتصاد ككل. وبعض الإصلاح ليس بالضرورة أفضل من عدم الإصلاح على الإطلاق.
الدوافع الأكبر

تبرز أهمية إصلاح القطاع المالي بسبب الحاجة إلى الإصلاح الشامل للسياسة الاقتصادية. لقد تسبب القلق المتزايد حول الاستدامة المالية في شروع عدد من الدول بالاندماج المالي وحتماً ستكون هناك حاجة إلى التركيز الاستراتيجي على الاستدامة. وسيكون تعزيز التنظيم المالي مهماً بهذا الصدد، وذلك نظراً للدور الذي لعبه (تأميم الخطر) في إبراز المشكلات المالية إلى جانب مخاطر تجدد الاضطرابات. فتكاليف إنقاذ المؤسسات المتهالكة ودعم النشاط الاقتصادي في غياب الوساطة المالية العادية، أثبتت أنها باهظة الثمن. ولا بد أن يتضمن جزءا من ردة الفعل اللازمة لقواعد أكثر صرامة إلى جانب إعادة خصخصة بعض من تلك التكاليف. ويبدو أن هناك زخما متزايدا في الوقت الراهن خلف مخططات إنشاء خطط تأمين ممولة صناعياً، والتي من شأنها أن تحول التكلفة الأولية لعمليات الإنقاذ من أموال دافعي الضرائب إلى ملاك ودائني مؤسسات القطاع المالي. ويخطط الاتحاد الأوروبي حالياً إلى وضع تشريعات لمثل هذا الصندوق بحلول عام 2011.

خطر الموازنة

إن الاختلافات في الثقافات الاقتصادية تخلق خطراً عظيماً على إجراء الإصلاح التنظيمي في السياق الوطني. ويبدو أن بعض الدول لديها تسامح أكبر حول الحلول التي يقودها السوق وسلوك المضاربة أكثر من دول أخرى. علاوة على ذلك، فالدور المتصور للقطاع المالي يختلف بشكل كبير عن مستوى الدول. ودائماً ما يكون هناك خطر من استخدام بعض الحكومات للجهود التنظيمية لنظرائها كفرصة للموازنة. ولن يزيل الغضب الشعبي الرغبة في استخدام تنظيمات خفيفة أو ملائمة للسوق كوسيلة لجذب مزيد من الشركات الأجنبية إلى قطاعات معينة. ومع سعي الحكومات حول العالم لتشديد قواعدها، فالبعض الآخر يسعى إلى التعريف بنفسه من خلال إبراز أعبائه التنظيمية الأقل مشقة، أو حتى التنظيمات والتكاليف المتخلخلة. وبوجه عام، يشكل هذا المنطق حافزا للبلدان لتمييز أنفسها ببذل القليل من الجهد في مجالات معينة، ما يقوض التنسيق الدولي. إضافة إلى ذلك، فالإصرار الكاذب على إصلاح التنظيم بشكل نهائي قد ينتج عنه مكاسب زائفة. وتطور الأسواق عملية مستمرة، لكنها تخلق خطراً و ذلك بجعل القواعد قديمة وغير مواتية، وذلك بعد أن يتم إقرارها. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى جعل التنظيم أكثر مرونة وأقل تفاعل.

ماذا يعني هذا بالنسبة لدول الخليج؟

يمكن لدول الخليج أن تشعر بالارتياح الكبير تجاه إطارها التنظيمي الثابت وسجلها الناجح من استقرار القطاع المالي والاقتصاد الكلي. ومن ناحية المضمون، يمكن التوقع لبقية الدول، على المدى القريب على الأقل، أن تصبح مثل دول الخليج من ناحية المعايير والممارسات التنظيمية. ومع ذلك، فالتحديات التي تواجه دول الخليج لا تقل في عديد من النواحي عن تلك التي يواجهها الغرب. في حين أن التنظيمات الإقليمية كانت مناسبة لمواجهة الأزمة، فإن السوق العالمية في تطور مستمر وتحديات التنمية التي تواجه الاقتصادات الإقليمية هائلة. هناك حاجة ملحة لتمكين التنظيمات لعديد من ''العناصر المفقودة'' لتطوير القطاع المالي الإقليمي ''الرهون العقارية، السندات، تصنيف الائتمان ... إلخ''. وفي الوقت ذاته، يجب أن يكون التنظيم وقائياً بطبيعته. وكما يتضح من بعض فقاعات الإسكان الإقليمية، فمجرد السماح لنوع معين من النشاط لا يفعل سوى القليل لضمان أن تطور ذلك القطاع من السوق مستقر ومستدام. فمشكلات بعض أسواق العقارات ومؤسسات القطاع غير المصرفي في المنطقة تعد ضئيلة مقارنة بالكارثة الشاملة التي تواجهها عديد من الأسواق الغربية. ومع ذلك، كانت تكاليف تلك الأخطاء مرتفعة ولا ينبغي أن تتكرر. فالتنظيمات القادرة على اتخاذ القرارات والمدعمة بالكوادر البشرية المناسبة، إضافة إلى القواعد الدولية لأفضل الممارسات، ينبغي أن تبقى هي الغاية الأساسية حيث ثبت عديد من قصص النجاح في المنطقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي