تحقيق التنمية المُستدامة.. تجارب ودروس!
تركيبة الاقتصاد الدولي غريبة وفريدة، فهي تجمع البلدان المتقدمة جداً، الأقل تقدماً، والبلدان النامية. وليس من غريب المصادفة القول ''إن البلدان المتقدمة عامة لم تصل إلى ما وصلت إليه إلا من خلال العمل الدؤوب والشاق، إضافة إلى التضحيات الوطنية على المستويات الاستهلاكية والترفيهية''. ولا شك أن الدول تمر بمراحل تبدأ فيها من الضعف ثم القوة من خلال توظيف الموارد المتاحة، ونتيجة إقامة قاعدة إنتاجية تضمن لها الاستمرار والبقاء، وهذه سنة الله في المجتمعات فهي مرت بمراحل تنموية وصادفتها العقبات، لكنها عملت على تذليلها وبكل قوة. بيد أن دراسة التاريخ الاقتصادي الحديث تُبرز لنا الكثير من النماذج العالمية المُشرقة التي استطاعت أن تبني لنفسها مجداً وأن تقهر الكثير من الظروف القاسية والعقبات الصعبة، وتحاصر المُعوقات الطبيعية مع تبني وتنفيذ الإصلاحات اللازمة والالتزام بالخطط الموضوعة مع التقيد بالتنفيذ الجيد لها من أجل بناء مجتمع نهضوي. وعندما ننظر بمزيد من التجرد إلى تجارب من سبقونا، وعلى سبيل المثال ماليزيا، فإننا نقف وقفة إجلال واحترام للجهود التي قامت بها بالرغم من الصعوبات الموجودة على الساحة الدولية، فقد تبَّنت منهج النمور الآسيوية في التخطيط والتنفيذ كتايوان وكوريا الجنوبية، واستفادت كثيراً من اليابان في إعداد الخطط التنفيذية، واستطاعت من خلال جهودها الجبارة أن تتحول في فترة قياسية من اقتصاد يعتمد على الزراعة والموارد الطبيعية إلى مجتمع صناعي متقدم. وفي المراحل الأولى لتطور النظام، قام التخطيط المركزي بالدور المطلوب وعلى أكمل وجه بالمساعدة على استقامة ونهضة الاقتصاد الماليزي، إضافةً إلى الإصلاحات الداخلية المهمة، التي منها تسطير دستور وطني يتضمن في ثناياه التوزيع العادل للثروات بين فئات المجتمع المختلفة. غير أنه من الممكن القول ''إن ماليزيا كنموذج تنموي استطاعت تطوير صناعاتها بدايةً من الاعتماد على الصناعات كثيفة العمل إلى الصناعات كثيفة رأس المال، خصوصاً الصناعات التكنولوجية في مراحل متقدمة من نموها الاقتصادي''. لقد اتبعت سياسة تحفيز وتشجيع الاستثمار الأجنبي مع سياسة إحلال الواردات، مقتفية في ذلك الخبرات والتجارب اليابانية في هذا السياق من تشجيع الصناعات الغذائية الخفيفة، الكيميائية، والبلاستيكية وفي مراحل لاحقة الصناعات الثقيلة، حيث ركزت جهودها لتشمل صناعة الآلات، السيارات، ومستلزمات البناء.. إلخ. كما أنها وضعت الحوافز التشجيعية بغرض تحفيز الشركات متعددة الجنسيات وتوطين أعمال الشركات الأجنبية متنوعة المشارب داخل ماليزيا، وبذلك استطاعت تطوير صناعات التصدير. وأخيراً، أسهم تشجيع الحكومة في قيام الصناعات التكنولوجية المعتمدة على التقنية العالية وكثيفة رأس المال. وقد يكون من الموضوعية التأكيد على أن ما وصلت إليه ماليزيا لم يتم إلا من خلال عمل جماعي تنسيقي بين الوحدات التخطيطية والتنظيمية كافة، ما أسهم في خلق نموذج تكاملي بين القطاعات كافة، بدايةً من التخطيط وانتهاءً بالتنفيذ لتصل إلى ما وصلت إليه اليوم. وإذا اتجهت شرقاً، فسترى العجب من بلد اختزل التاريخ الصناعي بعد أن خرج مُحطماً بعد الحرب العالمية الثانية وأتى بما لم يأت به الأوائل. اليابان تفتقر إلى غالبية الموارد الطبيعية، فالأراضي الزراعية لا تعادل سوى 15 في المائة من إجمالي الأراضي، ولهذا فهي تستورد تقريباً كل الموارد الطبيعية اللازمة للصناعة، ففي أثناء الحرب الكورية أنشأت وزارة التجارة الدولية والصناعة اليابانية بنكاً للتطوير، حيث أسهم وبفعالية متناهية في تطوير الصناعات اليابانية المتوسطة والثقيلة والكهرباء مع فتح المجال أمام الاستثمارات الأجنبية، ما أسهم في رفعة شأن الصناعة وتقدمها ووصولها إلى ما وصلت إليه. بيد أن الصين وهي من التجارب الصناعية التنموية الحديثة التي تستحق المراجعة، عانت مشكلات متنوعة من ضمنها كبر حجمها وكثرة سكانها، إلا أنها وبعزيمتها استطاعت التأكيد على أهمية الزراعة مع إعطاء وزن كبير للصناعة بمختلف درجاتها بجانب رفع مستوى التعليم وتشجيع الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الشراكة الأجنبية في التصنيع والتكنولوجيا. لقد لعب جهاز التخطيط المركزي دوراً بارزاً ومهماً في تحقيق نجاحات الصين الحديثة من ناحية تعبئة الموارد الاقتصادية وتوزيعها التوزيع المناسب بحيث يتحقق التوازن ما بين حاجة المواطنين مع الصادرات، بالإضافة إلى تخفيض الضرائب. ما من شك في أن تحقيق التقدم المادي هدف أساس، ولذا على الدول النامية مُضاعفة الجهد والتطبيق الحازم والمدروس لخطط التنمية، مع الأخذ في الاعتبار فعالية جهاز التخطيط وقدرته على متابعة الإنجازات. تحقيق النمو الاقتصادي من خلال التغيير لن يكون بوتيرة مُتسارعة ما لم تكُن هناك زيادة متواصلة في تكوين رأس المال الثابت، وهذا يتطلب المزيد من المدخرات على حساب الإنفاق الاستهلاكي. وضمن هذا المنظور، فإن التخطيط الجيد لا بد أن يأخذ في حسبانه إيجاد علاقات اقتصادية متناسقة ومتناغمة مع درجة الوعي الحضاري والاجتماعي لأفراد المجتمع بأهمية التخطيط، والاستفادة من تجارب الغير، التي اعتبرت مصدر إلهام لبعض الدول مثل الهند. اليد الواحدة لا تُصفق، وعليه فإن تحقيق التنسيق التام بين القطاعات الاقتصادية مطلب ضروري من أجل تحقيق التوازن بحيث يتم توجيه كل مورد وبشكل سليم إلى الفعالية الاقتصادية المُناسبة. مثل هذا التنسيق سيُحقق هدفين، الأول منهما تحجيم وتقليص الهدر جراء المشاريع المُزدوجة، والثاني الرفع من الكفاءة التشغيلية للمشاريع من خلال توجيه الموارد إلى القطاعات الفعلية، وهذا لا يتأتى إلا بوضع الخطط موضع التنفيذ الصحيح.