الحوار والتعايش بين الأطياف الفكرية

تتعدد تجليات الحوار الوطني الذي تعيشه بلادنا في السنوات الأخيرة وتتمايز بشكل يؤذن للمتابع أن يرصد جملة من هذه التجليات، وأن يعيد تأملها وقراءتها وسبر أسئلتها، ومن بين هذه التجليات يمكن أن يتأسس وعي جديد بالأشياء والظواهر، وقدرة فعالة على ملاحظة تغيرات هذا الوعي، وتحولاته وثوابته معا. إن إبداء الرأي في مجتمع نخبوي، أو قراءة تأثيرات النخبة على شرائح اجتماعية مختلفة من هذه التجليات، خاصة إذا لاحظنا أن هذه الحوارات مباشرة أو غير مباشرة، شفهية كانت أم تحريرية، طرحت في جلسات نقاش أو حلقات بحث، أو سطرت في كتب، أو نشرت بالصحف، أو في وسائل إعلامية أخرى، هذه الحوارات تسعى لتغييب الفردية، وتركز أكثر على الشأن العام، كما أنها تسعى لتقديم الجديد بوصفه سمة المرحلة، وسؤال التحديات الفكرية والثقافية التي تواجه بلادنا والعالم مثل: العولمة، والنظام العالمي الجديد، وتقارب الثقافات، والسعي إلى التعاون والتكتل الاقتصادي. إن الظاهرة الحوارية في المملكة تتسم بقدر كبير من التعايش بين مختلف الأطياف الفكرية، ذلك أن التقارب الشفيف بين شخوصها وعناصرها الفكرية وخواصها، قد تجسد في هذا الحوار العقلاني الدائب الذي تجلى في اللقاءات الوطنية التي عقدها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، وهي لقاءات سمحت بأن تتخذ الظاهرة الحوارية نموذجها الأسمى في الاختلاف الإيجابي، والتسامح، والوسطية، والاعتدال، والإعلاء من الشأن الوطني والمصلحة العامة، والتخلص من الفردية والأهواء، والانحياز المذهبي أو الفكري.
إن اللقاءات التي يقودها رموز من التيارات المحلية، كما في لقاء الشيخ سعد البريك والشيخ حسن الصفار هي منطلقات لتوجه شعبي سوف تقوده هذه الرموز ليشكل سمة فريدة لمجتمع ينشد الوئام، والاستقرار، والتقارب، والبناء المشترك.
إن هذا التعايش الذي يتجلى في الحوار والائتلاف حول القضايا الوطنية، وحول تأكيد الهوية الثقافية والفكرية المنطلقة من الثوابت الدينية والوطنية، والمستفيدة في الوقت نفسه من التحولات الثقافية الإيجابية عربيا وعالميا بما يزكو من حياتنا، وبما يطور من رؤانا وتصوراتنا التي نستثمرها في النهضة والبناء والمعرفة، هذا التعايش سمة من سمات هذه البلاد الأصيلة التي تنطلق من أدبيات وتقاليد عريقة لها أثرها في مختلف الأجيال.
إن هذا التعايش ربما لا نجده في مناطق أخرى من العالم من حولنا، حيث يتخذ التنوع الإثني أو العرقي أو المذهبي شكلا حادا، ويتخذ سمة الصراع في المنابر، فكل يريد أن يعبر عن نفسه، أو تياره بأية صيغة، وبأي شكل، حتى ولو تحول هذا التعبير إلى طرق غير مشروعة، أو إلى تعبيرات ومواقف حادة، وهذا ما تنبذه كل الأطياف الفكرية والوطنية في بلادنا متجهة صوب الحوار المسؤول المستظل بمظلة الدين والوطن، وهي مسؤولية وطنية ناضجة.
من هنا لنا أن نزهو بهذا التعايش الذي يترك مساحة كبيرة للتفكير والتأمل واستشراف مختلف القضايا، ووضع تصورات إيجابية شاملة حولها، وهو الأمر الذي يقودنا إلى استلهام عناصر هذه التصورات، وتطبيقها بشكل عملي يؤدي إلى النهوض والتقدم والمعرفة، وهذا هو دور الحوار، وصدى التعايش بين مختلف التيارات الفكرية في المملكة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي