مؤشر إيجابي في محاربة الفساد

حكاية ألف ليلة وليلة الفساد لا تنتهى عند الـ 40 مليونا التي وجدت في سرداب بيت كاتب العدل، التي جاء بها بعرق ضميره وليس جبينه، مرورا بشهادات مزورة أو جيء بها من جامعات غير معترف بها من جزر الواق واق وجامعات ''أبو ريالين'' وبها استولى على مناصب دون وجه حق، أو استغلال قرابة أو صلة ما ومصلحة شخصية مشتركة لمنح مميزات كحصول أحدهم على راتبين من جهتين مختلفتين، أو صرف راتب خيالي بعشرات ومئات الألوف من الريالات لشخص واحد وكأنه يملك قدرات سليمان ـــ عليه السلام، أو من يحصل على منح أراض بمئات آلاف الأمتار دفعة واحد وفي غمضة عين، بينما هناك من ينتظر سنين طويلة للحصول على منحة أرض ليبني عليها سكنا يعفيه من استنزاف الإيجار، بل هي حكايات مستمرة ومتوالدة.
هذه مجرد عناوين لحالات الفساد والإفساد التي استشرت - وقانا الله - من عواقبها، فانتشار الفساد سبب من أسباب زوال النعم، ونحمد الله أن هذا الفساد يجد اليوم من يواجهه ويحاربه ويكشفه، فكان الله في عون مليكنا عبد الله بن عبد العزيز وهو يقود حملة محاربة الفساد، ويطلق شفافية تعمل على قشع الضبابية التي يستتر بها.
ومحاربة الفساد في حالتنا عملية معقدة ومتشابكة، كونه قد استوطن وباتت له جذور تحتاج إلى جهد جهيد وإخلاص صلب لاجتثاثها واقتلاعها، فلا يكفي لقلع شجرة خربة قص فروعها، بل لا بد من اجتثاثها من جذورها حتى لو أدى الأمر إلى نزع جزء من التربة من حولها، وكي ننجح في القضاء على الفساد بصورته البشعة التي نسمع عنها، لا بد من تجفيف منابعه أولا، ومنابع الفساد موجودة فيمن يحميه ويتستر عليه بصورة أو بأخرى، فالفساد ليس عملا فرديا معزولا عن محيط يحتضنه، بل هو سلسلة متصلة أشبه ما تكون بتركيبة عصابات ''المافيا''، حيث لا يعرف لها طرف، فلن يكون لعملنا في محاربة الفساد نجاح على أقل تقدير في تقليصه ومحاصرته، بضرب فقط رؤوسه الظاهرة، بل علينا الوصول إلى تلك الجذور الخفية التي تحمي وتدبر من وراء حجب وستر، وهذا لن يأتي إلا حين نرسي إجراءات ونسن أنظمة لا تستثني أحدا، وحتى لا تترك الفرصة لكل صاحب نفوذ مهما كان أن يرعى الفساد وهو في مأمن من الحساب والعقاب، وأن نتأسى بقوله - صلى الله عليه وسلم - ''والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها''.
إن المواطن البسيط الذي أكل سنين عمره وهو يحلم بسكن يؤويه وعياله، ويركب سيارة يدفع فيها ربع راتبه أقساطا شهرية، ويحرم نفسه وأسرته من كثير من احتياجاتهم لتوفير لقمة عيش كريمة، ويتعامل مع سوق تنهش دخله الذي يجنيه بعرق جبينه أسعارا لا ضابط لها ولا مراقب، ومتروكا لقمة سائغة لجشع ونجش ممن أمن العقوبة. مثل هذا المواطن ما وقع سماعه لهذه المئات من الملايين التي استولي عليها ممن خانوا الأمانة واستغلوا المناصب لسرقة ماله العام وهو يكد ويكافح! وكيف ستكون ردود فعله وهو يرى من استغل ونهب لا يحاسب ولا يعاقب لأنه عرف كيف يمارس النهب دون أن يترك أدلة تدينه مستغلا ثغرات نظامية؟ سينعكس ذلك، بلا جدال، على إحساسه الإيجابي بالمواطنة، وهو ما سيؤثر في انتمائه الوطني.
إن محاربة الفساد بكل أشكاله كبيره قبل صغيره، البداية الصحيحة لأي إصلاح حقيقي، فالإصلاح لا يمكن أن يثمر في أجواء فساد متعدد الأشكال، ونحمد الله أن مجتمعنا أفرادا وجماعات يؤثر فيه البعد الديني الذي يحث على الأمانة والخوف من الله، ولهذا فقد أثمرت الدعوة لإبراء الذمة بإعادة 177 مليون ريال سعودي للحساب الخاص به وبشكل سري لا يعرف من أودع مبالغ فيه من قبل بعض من أغراهم وأغواهم شيطان المادة في أوقات سابقة لأخذ ما ليس له حق فيه من المال العام وصحوة ضمائرهم وخشيتهم الله، فكمّ المبلغ الذي دخل في حساب إبراء الذمة يدل على ذلك من ناحية، ومن ناحية أخرى يشير إلى أن هناك فجوات تغري من يكون ضميره يغط في نوم عميق بسرقة مال عام، ولكن ليس علينا أن نركن لصحو الضمائر، فهناك من شبع ضميره موتا وسيطرت عليه شهوة المال لأبعد مدى، ومثل هؤلاء لا يحرك ساكن ضمائرهم الخوف من الله، بل الأنظمة الصارمة والعقوبات الرادعة والمحاسبة الدقيقة، وهذه الملايين الـ 177 هي حصيلة بسيطة مقارنة بحالة فساد واحدة مما كشف عنه.
إن الكشف عن حالات فساد ومتابعتها أخيرا مؤشر إيجابي لإنجاز إصلاح حقيقي وفاعل، وطريق صحيح في ضبط الأمور وحماية المال العام من ذوي الضمائر الميتة، وقطع لدابر النهب دون حساب ولا عقاب، فنحن في زمن قيض الله لنا فيه من يرفع لواء محاربة الفساد، ندعو بأن يشد الله من أزره بالمخلصين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي