«جمهورية» البلاك بيري .. الرضوخ من أجل السيادة والخصوصية
وليس هناك من أدنى شك أن التقنية في عديد من جوانبها قد أصبحت في أحيان كثيرة مصدرا كبيرا لتهديد السيادة الوطنية للدول ومدخلا للسيطرة على خصوصيتها المحلية؛ ما يفسح مجالا واسعا لمناقشة طبيعة الجدل الدائر حول ما إذا كان بإمكان عدد من الدول في المنطقة أن تخترق بفاعلية مراسلات أجهزة «البلاك بيري» التي أصبحت بشكل أو بآخر تشكل مدخلا جديدا إلى العالم الخفي الخاص بالأنظمة الرقابية الإلكترونية الحكومية التي بدأت بالفعل تهدد الأمن الوطني، التي سنلمس أثرها ربما في الأمد المتوسط وربما ستسعى بطريقة أو بأخرى للتغيير في شكل السياسة العامة للدولة وفي أحيان أخرى تكون طريقا للجاسوسية والتجارة!
فالخلافات الأخيرة بين حكومات الدول التي يستخدم مواطنوها والمقيمون على أراضيها خدمات هاتف «بلاك بيري» لها وبين شركة «أر أي إم ريل موشن» الكندية المنتجة لأجهزة «بلاك بيري» لها ما يبررها، إذ تحتفظ الشركة الأم بكامل خدماتها في مقرها الرئيس في كندا، وترفض نشر خوادم في دول أخرى، معللة موقفها ذلك أن السماح بنشر خوادم في دول أخرى سيحد من جودة خدماتها ويصعب خدمات الصيانة في حال حدوث خلل في الأجهزة. والجدير بالذكر أن الرسائل التي ترسل عبر هواتف «بلاك بيري» تمر عبر خوادم الكمبيوترات الموجودة في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، وهو ما قد يتيح إمكانية التجسس عليها والحصول على معلومات تخترق الأمن والخصوصية الوطنية.
وتعاني شركات الاتصالات المحلية من كونها مجرد خادم لشركة البلاك بيري الكندية الأم «أر أي إم»، حيث تكمن مهمتها في جمع البيانات مشفرة «لا يمكن فك الشفرة» وإرسالها إلى خوادم «أر أي إم» التي تعمل على تحليل تلك الشيفرات وتخزين الرسائل فيها، ولا يحق لأحد الاطلاع عليها إلا من قبل «أر أي إم» وفي الحالات الضرورية فقط، حيث للشركة الأم وحدها الحق في تفحص أي رسائل أو بيانات في حالة الشك في محتواها. وفي محاولة منها لتحجيم خطر البلاك بيري، وكذلك من أجل الضغط على الشركة الأم قامت حكومات بعض الدول بالتهديد بحظر استخدام تلك الهواتف داخلها لأنها عجزت عن التحكم في رقابة بعض خدمات ذلك الجهاز لأنها خارجة عن نطاق سيطرتها.
والجدير بالذكر أن جهاز «البلاك بيري» هو جهاز الاتصالات الوحيد في العالم الذي يصدّر بياناته فوراً إلى خارج حدود الدول التي يعمل فيها، وهو ما يشكل خطورة بالغة على سرية المعلومات خصوصية وأمن الأفراد والدول علاوة على أن الجهة التي تتولى إدارة كل ذلك هي شركة تجارية أجنبية، وهو ما يعني أن اتصالات «البلاك بيري»، والبيانات العابرة خلاله تظل خارج نطاق الاختصاصات والقوانين المحلية في الوقت الذي يمكن أن تتم فيه مراقبة جميع الاتصالات والبيانات التي يتم تداولها عبر تلك الأجهزة بواسطة طرف ثالث خارج الدولة.
وكانت أول الخلافات التي نشبت بين الشركة الكندية والحكومات ما تم في نهاية عام 2008 عندما كشفت الحكومة الهندية أن منفذي تفجيرات «مومباي» التي حدثت على أراضيها في ذلك الوقت استخدموا خدمات جهاز «بلاك بيري» في تواصلهم لتنفيذ تلك التفجيرات. وطلبت الحكومة الهندية من الشركة الكندية فك تشفير الرسائل المشبوهة، حيث اشتكى مسؤولو الاستخبارات الهنود من عدم قدرتهم على فك شفرة البيانات والرسائل التي يتم إرسالها عبر شبكة «بلاك بيري»، ولكن لاقى ذلك رفضا شديدا من قبل الشركة. وعللت ذلك بأنها لا تسمح لأي طرف آخر بالاطلاع على طريقة تشفير بياناتها، ما زاد من شدة التوتر بين الحكومات التي تريد حماية شعبها وأمنها وأراضيها وبين الشركة الكندية التي تحمي خصوصية عملائها وسرية بياناتهم.
وفي الولايات المتحدة قام الفريق الأمني الرئاسي الأمريكي حسب شبكة «سي. إن. إن» الإخبارية الأمريكية بمصادرة جهاز الـ «بلاك بيري» الخاص بالرئيس باراك أوباما بسبب ما اعتبرته دواعي أمنية، وذلك بعد أن استمر الرئيس في استخدام هذا الجهاز على الرغم من عديد من النصائح التي كان قد تلقاها قبل دخوله إلى البيت الأبيض. وفي فرنسا طلبت الحكومة الفرنسية من موظفيها التوقف عن استخدام هاتف «بلاك بيري» مبررة ذلك بمخاوفها المتعلقة بأن الرسائل التي ترسل عبر الهواتف المعنية تمر عبر خوادم الكمبيوترات الموجودة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو ما يتيح إمكانية التجسس عليها والحصول على معلومات تخترق الأمن والخصوصية.
ولعل النزاع الدائر حاليا بين السعودية والإمارات من جانب والشركة المصنعة لهواتف البلاك بيري الذكية من جانب آخر، لن يكون نهاية المطاف في السجال الدائر حول الخدمات التي يقدمها هذا النوع من الهواتف، ويبدو أن كرة الثلج أصبحت تتدحرج بشكل أكبر، وأصبحت مطلبا لعدد دول العالم التي تطالب بشكل مشروع يضمن سيادتها الوطنية أن تكون لديهما القدرة على الاطلاع على البيانات المشفرة لرصد المخاطر الأمنية وسط تهديد بحجب خدمة الرسائل الفورية.
فهل تمتلك تلك الدول التي تطالب بشريعة حجب بعض الخدمات «البلاك بيري» لحماية سيادتها الوطنية وخصوصيتها الاجتماعية؟ أم أن هذا الخلاف الذي تزداد هوته هو الصراع بين فكرة الإنترنت الحر ورغبة عدد متزايد من الدول من الصين إلى إيران في السيطرة على المعلومات وتعميق المراقبة لمواجهة المعارضة والتمرد - حسب ما تقوله وكالة رويترز؟ قد يبدو لطبيعة الخطر الذي تمتلكه تقنية هذا النوع من الهواتف يستدعي من السعودية الأخذ في الحسبان طبيعة الأخطار الذي يمكن أن تلحق بها وجود نوع من هذه التقنيات التي لا تقيم وزنا للسيادة الوطنية، ما يعني أن الرقابة على بعض التقنيات الموجودة في هذه الهواتف هي في سلم الأولويات التي تمثل جانبا مهما في الأمن الوطني الذي يشكل رديفا أساسيا للأمن الاجتماعي الذي لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن الرقابة من قبل الجهات الحكومية المختصة، وعليه فسؤال الرقابة الحكومية يتخذ مشروعيته من مشروعية السلم والأمن الاجتماعي والسياسي!
وسبب هذا الجدل والتخوف المشروع نابع من الحرص على الأمن الوطني والسلم الاجتماعي الذي يمكن أن يشكله «البلاك بيري»، حيث إنها تستخدم خدمة رسائل مشفرة لا يمكن حلها إلا من قبل الشركة المشغلة للهواتف خارج حدود البلاد، الأمر الذي لا يمكن السلطات من مراقبتها. وعادة ما تخزن الرسائل المشفرة المرسلة عبر أجهزة «البلاك بيري» في كندا، حيث الشركة المصنعة لهذه الهواتف RIM، ولا يمكن لأي طرف ثالث الوصول إليها ومراقبتها.
وقد حسمت السعودية مصير استمرار خدمة الرسائل الفورية لأجهزة «البلاك بيري» أو إيقافها، بعد أن أحدث إعلان إيقاف الخدمة، تصعيدا خلال الأيام الماضية، بين الشركة الكندية المصنعة لأجهزة بلاك بيري، وهيئة الاتصالات السعودية، نتيجة عدم تلبية الشركة متطلبات الهيئة التنظيمية، التي يعدها الطرف الأول مراقبة للحريات ولأمن الجهاز، فيما عدّها الجانب الثاني مساسا بأمن الدولة، بما أن هيئة الاتصالات في السعودية وغيرها من الدول لا يمكنها مراقبتها.
وفي تصريح سابق لهيئة الاتصالات السعودية قالت فيه «نظرا للتطور الإيجابي في استكمال جزء من المتطلبات التنظيمية من قبل مقدمي الخدمة، قررت الهيئة السماح باستمرار تقديم خدمة «البلاك بيري ماسنجر» ومواصلة العمل مع مقدمي الخدمة لاستكمال ما تبقى من متطلبات تنظيمية، وحسب بعض المصادر الإخبارية الأجنبية، التي أشارت إلى أن إحدى شركات الاتصالات الثلاث المشغلة للخدمة أن هناك بوادر إيجابية للتوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين، هيئة الاتصالات والشركة الكندية، وأن الهيئة منحت شركات الاتصالات هذه المهلة لاختبار النظام الذي يعمل على رقابة معلومات المشتركين. ووفقا لتصريح الهيئة، فإن المفاوضات لا تزال مستمرة، لاستكمال متطلبات أخرى، بعد أن تم استيفاء جزء منها.
وذكرت المصادر أن المتفاوضين أمام حل من ثلاثة لضمان استمرار خدمة التراسل «بي بي ماسنجر»، فإما أن تلتزم الشركة بإعطاء هيئة الاتصالات السعودية خادما خاصا بها يضمن لها مراقبة جميع البيانات والمعلومات، وإما أن تمنح لها مفاتيح دخول على الخادم الخاص بالسعودية، وذلك للتحقق ومراقبة ما تفرضه الحاجة، وإما أن تلجأ الهيئة السعودية إلى شركة أخرى لفك شيفرات الأرقام والبيانات، إلا أن الهيئة لم توضح في تصريحها المتطلبات التي تم تنفيذها.
وفي ظل فترة ترقب مصير البلاك بيري في السعودية، كان المحلل المالي بيار فيرجواي، من سان فورد بيرنستين للدراسات والاستشارات المالية في لندن، قد وضع سهم شركة ريسيرش إن موشن تحت المراقبة، خصوصا أنه في حال عدم التوصل إلى حل، سيضطر كثير من مستخدمي بلاك بيري إلى البحث عن بديل جديد لهم.
من ناحية أخرى، لفتت صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أن الشركة المصنعة لبلاك بيري توصلت إلى حل مع هيئة الاتصالات السعودية، يكمن في تزويد السعودية بخادم خاص، وبأن المفاوضات شارفت على الانتهاء، فيما أكدت إحدى الصحف السعودية نقلا عن بعض المصادر أن الطرفين قد توصلا إلى الاتفاق، في الوقت الذي رفضت فيه الشركة المصنعة لبلاك بيري التعليق حول ما الذي تم الاتفاق عليه.
وشهد سهم الشركة تراجعاً استمر لمدة خمسة أيام في بورصة ناسداك، فيما بلغت تراجعات السهم 23 في المائة منذ بداية العام. وبناء على ذلك أوصت شركة MKM للاستشارات المالية ببيع سهم RIM، وقالت الشركة إنه حتى مع توصل الشركة إلى حلول ترضي الهيئات، إلا أن خاصية السرية والحماية التي تميز أجهزة بلاك بيري ستفقد رونقها ومصداقيتها لدى كثيرين، خصوصا أن عدد مشتركي بلاك بيري في العالم يبلغ 45 مليون مشترك وهناك 550 موزعا، ومن الجدير ذكره أن عدد المنتفعين من خدمة البلاك بيري في السعودية يبلغ نحو 700 ألف منتفع.