أفيون حقوق الإنسان

ها هي الشمس تأذن بالأفول في الأفق البعيد في أحضان جبال مكة وآكامها، وها هو الليل يغشى أوديتها، والسكون يخيّم على بيوت قريش وطرقاتها، يلف أهلها الهدوء، قد أوى الناس إلى دورهم وبيوتهم بعد يوم شاق عمله، حار جوّه، يؤون إلى فُرشهم وقد قرت أعينهم بصغارهم وأهليهم، إلا ذلك الرجل (الزبيدي) الذي قد غشيه الهم، وركبه الغم، لا يقر له قرار، ولا يهنأ له طعام، وكيف ذلك وقد شعر بالحيف والظلم، إذ اشترى بضاعته العاص بن وائل السهمي سيد من سادات قريش ثم ماطله في قيمتها ولم يعطه شيئا.
طال ليل الزبيدي ولم تذق عينه النوم، فلما لاحت بواكير الصباح صعد الزبيدي جبل أبي قبيس ثم نادى بأعلى صوته:
يا أهل فهر لمظلوم بضاعته
ببطن مكّة نائي الأهل والنفر
إنّ الحرام لمن تمت حرامته
ولا حرام لثوبي لابس الغدر

فاجتمعت عشائر من قريش، اجتمعت في دار عبد الله بن جدعان التيمي لشرفه وسنه، وهم‏‏‏ بنو هاشم وبنو المطلب وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة‏‏‏، والحارث بن فهر. وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته. فقالت قريش هذا فضول من الحلف، فسُمي حلف الفضول.
هذه صورة من صور ظلم الإنسان لأخيه الإنسان يوم كان وجه الأرض مكفهرا بالشرك، ثقافة الناس حينها ''ومن لا يظلم الناس يُظلمِ''، بل كان عدم الظلم مذمة ومنقصة في حق القبيلة.
قُبيلةٌ لا يغدرون بذمةٍ
ولا يظلمون الناس حبة خردلِ
فلما جاء الإسلام وسطعت شمسه على أرجاء المعمورة كان العدل والنهي عن الظلم من محكمات تشريعه ''يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا''.
إن المتأمل في أحوال البشرية وتقلبات العالم يرى الظلم قد أطبق على وجه الأرض، حروب وصراعات وقتلٌ وتدمير واغتيالات واغتصاب وتشريد وتجويع!
والبلية المضحكة المبكية أن هذا يحدث على سمع وبصر العالم كله في الوقت الذي يتحدث فيه العالم كله عن حقوق الإنسان!
إن الظلم أيا كان وممن كان دولا أو أفرادا هو بالفعل أفيون حقوق الإنسان، لا يمكن بحال أن يجتمعا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ''الفتاوى'' في ''رسالة في الحسبة'' ما نصه:
''فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ وَلِهَذَا يُرْوَى'': ''اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً''.
ولكم أن تتأملوا أحوال الناس عندما تضعف في نفوسهم مراقبة الله والخوف منه، كيف يتحولون إلى وحوش كاسرة، تملأ نفوسهم الأثرة والأنانية وتدفعهم إلى أخذ حق غيرهم دون رحمة أو شفقة، ثم لكم أن تتعجبوا كيف تهنأ للظلم حياة ويطيب له عيش وهو قد ظلم غيره أو تعدى على حق أخيه!
إن رمضان فرصةٌ كبيرة لرد المظالم إلى أهلها والتسامح بين الناس وطلب العفو والصفح وتصافي النفوس هذا بين الأفراد، أما من تعدى على الأموال العامة من خلال دهاليز الفساد الإداري والمالي فرمضان فرصة للتوبة، والدولة وضعت حساب إبراء الذمة لتفتح الطريق أمام التائبين.
لا تظلمن إذا ما كنت مقتـدرا
فالظلم آخره يأتيك بالنـدم
نامت عيونك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنـم
تقبل الله صيامكم وقيامكم وحمانا وإياكم من الظلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي