ما هكذا يا عمرو...!!

لا أختلف كثيراً مع مَن يعتقدون أن معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية، السيد عمرو موسى، هو أبرز الأمناء، الذين تعاقبوا على سدة الأمانة منذ 1945 حتى اليوم، من حيث الحيوية والخبرة ومواكبة الأحداث، تسند ذلك سيرة ذاتية تدعو إلى الإعجاب. فقد انخرط في السلك الدبلوماسي منذ أواخر الخمسينيات، وتدرج في هذا السلك إلى أن دفع به طموحه إلى أعلى المناصب، سفيراً لدى الهند؛ ونائباً ثم رئيساً للبعثة الدائمة لمصر في الأمم المتحدة؛ ثم وزيراً للخارجية لمدة عقد كامل.
وفوق هذا وذاك، شخصيته الكاريزمية ـــ مقارنة بمَن سبقوه ـــ واستقلاله بالرأي إلى حد بعيد مع مقدرته الملحوظة في الحديث باللغتين العربية والإنجليزية. وقد ساعده علو همته على نجاحه في عقد قمة الكويت الاقتصادية العام الماضي، ونجاحه في تأكيد عقد القمة الثانية للغرض نفسه في القاهرة مطلع العام القادم، مع تدبير الجزء الأكبر من المبالغ التي نادت بها قمة الكويت لدعم المشاريع العربية الصغيرة والمتوسطة.
وأرجوا أن أضيف إلى ما سبق أنني أعزز رأيي هذا بقرينتين:
الأولى: مشاركتي بصفتي مسؤولاً في صندوق الأوبك للتنمية الدولية (أوفيد) في أعمال قمة الكويت، وما سبقها من إعدادات شملت لقاءً مع الأمين العام قبيل القمة حضره رؤساء المؤسسات التنموية التي يُنظر إليها على أنها قناة التمويل الرئيسة لما يصدر عن القمة من برامج ومشاريع طموحة. وقد رأيت جهود الأمين على الطبيعة وهي ـــ كما قلت ـــ تعكس طموحه وتفاؤله وإصراره على أن العمل العربي في المجال الاقتصادي مجدٍ إذا توافرت الإرادة السياسية والإدارة الحكيمة.
الثانية: إنني خلال حياتي المهنية شاركت في وفد المملكة، ممثلاً لوزارة البترول والثروة المعدنية، في اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لجامعة الدول العربية خلال الفترة 1968، 1970 عندما كانت الأمانة بيد المرحوم عبد الخالق حسونة، ثم شاركت بالصفة التمثيلية السابقة نفسها في اجتماعات الحوار العربي ـــ الأوروبي خلال الفترة 1974 – 1975 أثناء ولاية المرحوم محمود رياض، الأمر الذي أتاح لي المقارنة بين الأمين العام الحالي ومَن سبقوه.
لعل هذه المقدمة تشفع لي ما سوف أوضحه تواً:
شاركت منذ شهر في ندوة كان السيد عمرو موسى أحد المتحدثين الرئيسين فيها. هذه الندوة تُعقد سنوياً تحت اسم ''منتدى بْلِدْ الاستراتيجي'' (Bled) (بتسكين الباء وكسر اللام) في دولة سلوفينيا التي كانت جزءاً من إمبراطورية المارشال تيتو. وحضر الجلسة الافتتاحية كل من رئيس الجمهورية، دانيلو تورك، وهو محامٍ وسياسي مخضرم؛ ورئيس الوزراء؛ ووزير الخارجية؛ وعمدة المدينة؛ وعدد من الوزراء والسفراء المعتمدين في بعض الدول الأوروبية؛ فضلاً عن حشد من العلماء والباحثين ورؤساء الشركات وممثلي وسائل الإعلام.
عقدت الحلقة الأولى من الندوة تحت شعار ''النظرة المستقبلية للعقد القادم،'' والمقصود هو مصير العالم خلال السنوات العشر القادمة في ضوء ما يعانيه من مشكلات متعددة. وأدار الندوة وزير خارجية سلوفينيا بمشاركة كل من:
أ ـــ رئيس وزراء مملكة بلجيكا.
ب ‌ـــ وزيرة الدولة للشؤون الخارجية في الهند.
ج ‌ــ نائب وزير الخارجية في البرازيل.
د ‌ــ السيد عمرو موسى.
وما يعنيني في هذه المقالة هو ما قاله الأمين العام أمام الملأ. لقد تحدث معاليه من ملاحظات في وريقات كانت بيده، وهذا أمر طبيعي أن يرتجل مَن هو في وزن السيد موسى وتأهيله. وبعد أن استعرض معاليه مشكلات العالم، ابتداءً من الفقر ومروراً بالصراع العربي ـــ الإسرائيلي، انتهى بإشارة عابرة، ربما أنها لم تكن ضمن الملاحظات المكتوبة التي كان يُنظر إليها بين الفينة والأخرى. وهذه الإشارة تتعلق بمشكلة التغيُّر المناخي ومشكلة أو أزمة الطاقة ـــ كما يُشار إليها أحيانا. واقترح معاليه إحالة هاتين القضيتين إلى مجلس الأمن الدولي، ثم التفت إلى الجنرال كولن باول، وزير الخارجية الأمريكية الأسبق وضيف الشرف في تلك الندوة، قائلاً وهو يبتسم ''إن هذا الاقتراح مشروط بنزع حق الاعتراض (الفيتو) في هذه المسائل من الدول دائمة العضوية في المجلس''. ولا أظن أن هذا الاقتراح وجد أرضاً خصبة عند الجنرال، الذي كان خطيب حفل العشاء في تلك الليلة، فهو لم يشر إليه، إما لأنه لم يأخذه مأخذ الجد وإما لأنه لم يرد أن يتطرق إلى مجلس الأمن بالمرة. فهذا الجنرال، الذي يتمتع بسجل عسكري معروف، يمثل مجلس الأمن له البقعة القاتمة في حياته السياسية بسبب ما ألقاه من بيانات ومعلومات في المجلس خلال مرحلة التمهيد لغزو العراق.
أما بالنسبة لبعض الحاضرين ـــ وأنا منهم ـــ فإن الأمر يعنيهم خصوصاً ما يتعلق بأمور الطاقة. لقد تساءلنا بعد انتهاء الحلقة عن فحوى هذا المقترح، الذي ألقاه الأمين وكأنه لم يجد خاتمة تستفز حماسة الجمهور غيره. وعمّا إذا كان معاليه يريد إحالة أمور الطاقة إلى مجلس الأمن مكافأة للمجلس على حُسن أدائه لمهمته الأساسية ـــ كما وردت في الفصول الخامس والسادس والسابع من ميثاق الأمم المتحدة ـــ أم أنه يعتقد أن المجلس قد فشل في مهمته الأساسية، فأراد أن يمنحه تفويضاً جديداً لحل مشكلة الطاقة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية. ولعلّ معاليه يتذكر أن الأمم المتحدة ممثلة بالجمعية العامة واللجان المنبثقة منها ـــ لا مجلس الأمن ـــ تتصدى لبعض مشكلات الطاقة سواء ما أُحيل إليها من وثائق ريو دي جانيرو عن البيئة أو مشكلات الفقر المعروفة بأهداف الألفية.
إن ما أثار حفيظتي ـــ ومعذرة معالي الأمين ـــ هو:
أولاً: إن بعض كبار المسؤولين ومَن هم في قمة الهرم يخوضون أحياناً في أمور لا تقع في دائرة اختصاصهم أو نفوذهم وربما ثقافتهم. ويخامر الشك ذهن المستمع إذا أحسّ أن ما يقوله المتحدث جاء من وحي اللحظة، وليس مبنياً على نص مكتوب خضع للتنقيح والمراجعة والاستئناس برأي أهل العلم.
ثانياً: إن ما يُقال في مثل هذه الندوات يتلقفه بعض المشاركين، وهم الأغلبية الصامتة التي تحضر لتسجيل ثم تحليل ما يُقال من آراء، خصوصاً ما يتسم منها بالجدة والطرافة، وبالذات عندما تصدر من رجل بوزن الأمين العام وما يتمتع به من صلات مع ملوك ورؤساء الدول العربية التي تستحوذ على ما يزيد على نصف الاحتياطي العالمي للبترول. ولو قالها غيره لما كان لها أهمية، فعالمنا المعاصر يزخر بالآراء الفجة التي تأتي من أناس يهرفون بما لا يعرفون.
بعد هذا، دعوني أسجل ما يلي:
1 ــ إن إحالة قضايا الطاقة إلى مجلس الأمن تعني للوهلة الأولى التسليم بأن الطاقة أصبحت مسألة أمنية تهدّد السلام والأمن العالميين، وعلى هذا، فإنها ليست بمنجاة من أحكام الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يبيح التدخل العسكري إن لزم الأمر - وهذا غني عن التعليق.
2 ــ إن ما يُشار إليه أحياناً بأزمة الطاقة هو مفهوم نشأ منذ بداية السبعينيات، أي منذ ثلاثة عقود، وهو مفهوم مُسيَّس، ويُقصد به أن مصادر الطاقة، والبترول بالذات، غير مأمونة استشهاداً بما صاحب حرب أكتوبر 1973 من تطورات سياسية أدت إلى قفزات متسارعة في أسعار البترول الخام، واستناداً أيضاً ـــ وهو المهم ـــ إلى أن سيطرة الدول المصدرة للبترول على سياسات الإنتاج والأسعار انتزعت زمام المبادرة من الدول الكبرى التي كانت تنام ملء جفونها عندما كانت شركاتها العملاقة تسيطر على هذين العنصرين.
3 ــ إن أول زعيم استخدم عبارة ''أزمة الطاقة'' بشكل جدِّي هو الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، الذي أنشأ أول وزارة للطاقة عام 1977 إثر فوزه بسدة الرئاسة ليوكل إليها مهمة الإشراف على تنفيذ خطته التي سيعرضها على الكونجرس، ولكي يضمن تمرير هذه الخطة فقد وجّه خطاباً ـــ لعله أهم خطاب يلقيه على شعبه في شأن داخلي ـــ في الثامن عشر من أبريل 1977 قال فيه ما يلي:
''إن أزمة الطاقة لم تهيمن علينا بعد، ولكنها ستفعل ذلك إن لم نتحرك بسرعة .. إن قرارنا حول الطاقة هو امتحان لشخصية الشعب الأمريكي ومقدرة الرئيس والكونجرس على الحكم. إن هذا الجهد الصعب يمثل المعادل الوجداني للحرب، غير أنه جهد للبناء وليس الهدم.. إن الزيت والغاز الذي نعتمد عليه بنسبة 75 % من احتياجاتنا للطاقة في طريقه للنضوب''.
(الفقرات 1،7،9 من الخطاب)
وقد التصقت عبارة ''إن هذا الجهد المطلوب هو المعادل الوجداني للحرب'' أو بالنص الأصلي The moral equivalent of war بالرئيس كارتر، وأصبحت وكأنها ماركة مسجلة له رغم أنه ثبت أن معد الخطاب قد اقتبسها من فيلسوف يدعى وليام جيمس، الذي استعمل هذا اللفظ واصفاً معضلة الفقر بأنها المعادل الوجداني للحرب، كما يوضح ذلك فرانسيسكو بارا في كتابه القيم عن سياسة النفط الصادر عام 2004. والذي يهمنا مما قاله الرئيس كارتر، أنه، وإنْ أشار إلى نضوب المصادر الأحفورية إلا أن أزمة الطاقة التي وردت بخطابه هي أزمة طلب أكثر منها أزمة إمدادات، وسببها الشهية المفتوحة لاستهلاك البترول في الولايات المتحدة، والتي بلغت في بداية عهد الرئيس كارتر (1977) 30 % من الاستهلاك العالمي، أو ما يعادل استهلاك قارة إفريقيا برمتها للفترة نفسها 16 مرة.
4 ــ إن مجرد التفكير في اللجوء إلى مجلس الأمن لحل مشكلات الطاقة يغفل الجهود التي بدأت بشكل جدي منذ أوائل التسعينيات للتعاون والحوار بين المنتجين والمستهلكين، وكأن الأجهزة القائمة على رعاية هذا الحوار قد فشلت، وهو افتراض تنقصه البراهين. وقبل التطرق إلى تلك الأجهزة ودورها في معالجة قضايا الطاقة، أرى أن من المفيد إلقاء الضوء في الفقرة التالية على ما تعنيه مشكلة الطاقة بين المنتجين والمستهلكين.
5 ــ أصبح للطاقة هذه الأيام، خاصة بعد مؤتمر كانكون في المكسيك (مارس 2010) الذي جمع المستهلكين والمنتجين، ثلاثة أبعاد، وهي تأمين الإمدادات وأمن الطلب والطاقة للفقراء.
ولو نظرنا إلى تأمين الإمدادات الذي يُفترض أن تقوم به الدول التي لديها فائض بترولي للتصدير، فإن (أوبك) قد تعهدت به منذ خمسين عاماً. ومن يطَّلع على ديباجة أول قرار تصدره المنظمة في سبتمبر 1960 أو المادة الثانية من ميثاق (أوبك) يرى بوضوح هذا التعهد الذي نفذته وتنفذه المنظمة على أفضل وجه، ولعلي أتصدى لهذا الجانب في مقالة مستقلة.
أما أمن الطلب فقد كان مطلباً تنادي به الدول المصدرة، وفحواه أن تتسم خطط المستهلكين بالشفافية اللازمة التي تساعد المنتجين على وضع الخطط لتطوير حقولها ومواردها البترولية، وهي خطط تحتاج إلى أموال طائلة ووقت أطول مما يتصوره الفرد العادي. وقد قبلت الدول المستهلكة أخيراً أن يقع هذا المطلب (أمن الطلب) ضمن مفهوم وضع الطاقة، ويبقى أن تُتخذ التدابير لتنفيذه كما تفعل الدول المصدرة للبترول فيما يتعلق بأمن الإمدادات.
البُعد الثالث لقضايا الطاقة هو الطاقة للفقراء تمشياً مع المبادرة التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، في جدة في شهر يونيو 2008، وهي مبنية على حقيقة أن ما لا يقل عن 1,7 بليون نسمة في العالم محرومون من الكهرباء، وقد دخلت هذه المبادرة ضمن قضايا الطاقة التي تبحثها الأطراف المعنية، وتأكدت عندما أصبحت جزءاً من البيان المشترك للمؤتمر الوزاري الثاني عشر للمنتجين والمستهلكين المنعقد في كانكون مطلع هذا العام، كما وردت في بيانات لجنة العشرين الصادرة في بتسبرج وتورنتو. بل إن روبرت زوليك، رئيس البنك الدولي، نص عليها صراحة في خطابه الذي ألقاه أمام قمة الكويت الاقتصادية.
6 ــ لقد أنشأت الدول المعنية بأمور الطاقة عديدا من الأجهزة، وهي: (أوبك) للدول المصدرة التي تكمل نصف قرن من العمل الجاد، ووكالة الطاقة الدولية لدى المستهلكين، التي أدخلت تحسينات واضحة على خطابها خلال الأعوام العشرة الماضية، ويكفي أن مديرها التنفيذي أكّد في كانكون أن أمور الطاقة لا يمكن حلها بمعزل عن موضوع الطاقة للفقراء. وعلاوة على هذه الأجهزة، فقد استجابت الأطراف المعنية لمبادرة خادم الحرمين الشريفين بإنشاء منتدى الطاقة العالمي، ومقره مدينة الرياض. وهذا المنتدى مُقْدم على تطورات مطلع العام القادم لتعديل نظامه وتوسيع تفويضه على نحو يمكنه بفعالية أكثر من تعميق الحوار بين المنتجين والمستهلكين بهدف السير نحو حلول مستدامة لقضايا الطاقة. يضاف إلى ذلك منظمة الطاقة المتجددة التي اتخذت أبو ظبي مقراً لها. كل هذه الأجهزة تعمل ضمن تفويض يستند إلى إرادة سياسية من الدول المنتجة والمصدرة. وهي ـــ بلا شك ـــ تملك القدرة والمعرفة للتعامل مع قضايا الطاقة، ولا إحدى من هذه المنظمات يعتقد بأن أمور الطاقة تهدد الأمن والسلام العالميين لكي تحال إلى مجلس الأمن.
واستيفاءً لهذا الموضوع، أرجو من القارئ ألا يخرج بانطباع أن الطريق مفروش بالورد، وأنه ليست هناك مشكلة تواجه العالم. نحن في عالم معظم استهلاكه من الطاقة يأتي من مصادر ناضبة، طال الوقت أم قصر. فالزيت الخام موجود لكننا نشهد ـــ بلا شك ـــ انتهاء حقبة الزيت الرخيص، ولا بد من استمرار الحوار والتعاون للانتقال المتدرج إلى مصادر أخرى في المستقبل. وعلى الدول المصدرة، والتي تعتمد اعتماداً كلياً على مصدر واحد أن تستثمر في بناء الطاقات البشرية والتقنية مع إعداد شعوبها من الآن لمواكبة ما سيؤول إليه العالم بعد حين قد لا نشهده، خصوصاً في ظل أنماط الاستهلاك الراهنة من الطاقة والمياه.
أمّا معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية، فإنني أثق بما لديه من حكمة ودراية تجعله يتفق معي على أن الإعلام مصدر القوة. لكن هذا الإعلام الذي تُعد الندوات العالمية إحدى قنواته ينبغي أن يستند إلى الدراسة المتأنية والتحليل والتعليل والمناقشة فيما هو متاح وما هو ممكن قبل القفز إلى نتائج لا تصمد أمام التمحيص. ومعاليه في غنى عن الخوض في أمور قد تحتاج إلى تفرغ كامل فلديه ـــ كان الله في عونه ـــ من المشكلات في العالم العربي ما يكفيه. وإن تحقق طموحه فيما يصبو إليه من القمم الاقتصادية العربية، فإنه سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه ممسكاً بيمينه عصا موسى التي تكسر طوق المستحيل.

مدير عام صندوق «أوبك» للتنمية الدولية (أوفيد)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي